من
النكات الفلسطينية التي تتكرر منذ سنوات، تلك التي تقول:
( إن ثلاثة مواطنين عرب أو فلسطينيين، قد التقوا عند حاخام صهيوني، وكل
منهم يريد التحول عن دينه واعتناق الديانة اليهودية، حيث رفض الحاخام
طلبهم في البداية، إلا أنه وقد رأى إلحاحهم وصدق الرغبة لديهم، وافق على
طلبهم على شرط أن يقطعوا بحيرة طبريا سباحة ذهاباً وإياباً.
وسرعان ما انطلق ثلاثتهم إلى البحيرة، وقذفوا بأنفسهم في مياهها، سابحين
بكل همة ونشاط، حيث لم يلبثوا إلا قليلاً حتى وصلوا الشاطئ الآخر وقفلوا
راجعين باتجاه نقطة الانطلاق في الشاطئ الأول.
ووصل الفارس الأول، وتبعه الثاني، وجلسا على الشاطئ وهما في غاية السرور
والانتشاء، واقترب الثالث وصار على بعد أمتار من الشاطئ، غير أنه أعياه
التعب وأرهقه الإجهاد والإعياء، وصار يتخبط في الماء، وبدا واضحاً أنه قد
فقد توازنه، وأنه لا محالة سيغرق، فقال أحد الرجلين لصاحبه: إن رفيقنا
يغرق فهيا لإنقاذه، فرد عليه ـ بالعبرية ـ: دعه يغرق فإنه عربي قذر!!).
وقبل الشروع في التحليل، أرى من المناسب الإشارة إلى أن هذه النكتة
مستوحاة أو مطورة عن نكتة انتشرت بين فلسطينيي 1948، عقب النكبة الأولى،
والتي تقول:
( إن تلميذاً فلسطينياً كان يتعلم في مدرسة ابتدائية يهودية، في
المستوطنة المجاورة لقريته، قد سألته معلمته عن اسمه فقال: محمد. فقالت
المعلمة إن هذا اسم غير جيد ولا يليق بولد شاطر وجميل مثله، وأضافت بأن
اسمه منذ تلك اللحظة هو: شلومو.
وعندما رجع إلى البيت نادته أمه وأبوه فلم يرد عليهما ولم يلب نداءهما،
مما أثار استغرابهما واستهجانهما، وحينما سألاه ما باله لا يرد عليهما
عندما يناديانه؟!
أجاب: إنني لا أريد اسم محمد، إنه اسم غير جيد، لماذا سميتموني به؟ أنا
من اليوم اسمي شلومو، ولن أرد على من يناديني بغيره.
فلم يتمالك الوالدان نفسيهما من الغضب والألم، وطفقا يضربان الصغير، الذي
فر إلى معلمته وهو يبكي، ولما سألته ما الذي يبكيه، قال ـ بالعبرية ـ:إن
عربيين قذرين قد ضرباه... يقصد: أمَّه وأباه!!).
إنهم يتهودون!!
إنهم يتهودون... هذا هو القاسم المشترك بين النكتتين، اللتين يفصلهما نصف
قرن من الزمان تقريباً، الأبناء هنا، والكبار المسئولون هناك، ولذلك
فإنهم ينظرون إلى العرب بنفس المنظار العنصري اليهودي: إنه عربي قذر، لا
يذكرون الموصوف/العربي، إلا ومعه صفته الملازمة/قذر، كما يتصورونه.و
العربي الجيد عندهم فقط هو العربي الميت.
هاتان النكتتان مشحونتان بقدر غير قليل من مشاعر الألم والمرارة،
والثانية منهما ترثي لحال الآباء والأجداد تجاه أبنائهم الذين جرفهم تيار
المحتل الغاصب، فصاروا يفكرون بطريقته، ويشعرون بأحاسيسه، ويستقذرون
آباءهم وتاريخهم، بل ودينهم ونبيهم أيضاً!!
لكن قد يكون عذرهم أنهم يتعرضون لتأثير وسائل الإعلام، ومراكز التربية
والتعليم المعادية، التي تلوث أفكارهم ومشاعرهم، وتفسد فطرهم وبراءة
طفولتهم.
وللحق؛ فإن الحال التي تصفها النكتة الثانية قد عانت منها الشعوب العربية
والإسلامية لعقود طويلة من القرن الماضي، حيث صدمتنا الهزائم، وخلب
ألبابنا الفارق العلمي والتقني بيننا وبين الغرب، فتنكرنا لتاريخنا
ولغتنا وديننا، وانصهرنا في الغالب المنتصر، فكراً وشعوراً وأحاسيس.
أما النكتة الأولى.. فقد سبق القول بأنها تتكرر في الشارع الفلسطيني بين
الفينة والأخرى منذ سنوات، وبالذات كلما ازدادت هرولة الساسة والمسئولين
والإعلاميين ورجال المال، للارتماء في أحضان الصهاينة تفاوضاً واستسلاماً
وعقد معاهدات، وكلما تسابقوا للتطبيع معهم، وهم في الوقت ذاته يخذلون
إخوانهم ولا يخفون لنجدتهم، ولا يرفعون عنهم ضيماً، وإن كانوا يسارعون
بالمقابل لحل أزمات الصهاينة، والتنسيق الأمني معهم، وحمايتهم من
المقاومين والتفاخر لهم بذلك، وفك أطواق العزلة عنهم، وتبادل السفراء
معهم وإدماجهم في المنظومة العربية الإسلامية اقتصادياً وثقافياً.
إنهم يتهودون!
ويسعون جاهدين لاسترضاء اليهود ولو كلفهم ذلك إراقة ماء وجوههم، وركوب
الأهوال واقتحام المخاطر والصعاب.. ولئن تحدثت النكتة الثانية عن طفل
غرير استغفلته معلمته، فإن النكتة الأولى تتحدث عن رجال كبار بكامل وعيهم
وإرادتهم يصرون على الانخلاع من دينهم والالتحاق بالأعداء حتى لو كلفهم
ذلك حياتهم، وكأنها تؤكد أن أولئك الذين يبيعون أنفسهم للصهاينة لا
يحصلون من وراء ذلك أية مكاسب حقيقية بل هم يضحون بالكثير في مقابل
الهوان.
ولعل اللقطة الأكثر مرارة هي عبارة: دعه يغرق فإنه عربي، إذ لم يشفع
لصاحبه أنه مخلص وصادق في رغبته بالتهود، ولم يشفع له أنه قطع أكثر من 99
بالمئة من المسافة وكاد يستوفي الشرط المطلوب، ولم يشفع له أنه يجمعه بهم
الأصل العربي، بل إن هذا الأصل هو السبب في خذلانه ورفض نصرته، إن هؤلاء
المتهودين على استعداد لفعل كل شيء لأجل عيون الصهاينة، لكنهم ليسوا
مستعدين لمناصرة إخوانهم العرب حتى لو كانوا مثلهم أنصاراً للصهاينة.
إن النكتتين تمثلان انعكاس الواقع على صفحات النفس الإنسانية، وهما هنا
يريانا عمق الانجراحات التي أصيب بها الشارع الفلسطيني، لأن الجرح في
الكف، كما يقولون، ولأن ظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع
الحسام المهند.
ولكن مما ينبغى التأكيد عليه أن موالاة الأعداء وخذلان إخوة العقيدة
والإيمان، ليس أمراً محصوراً، في الحالة الفلسطينية ومحيطها العربي، بل
إنه ليتكرر في كافة المجتمعات البشرية، وقد كان لذلك مثيل في العهد
النبوي ، حيث تحدث القرآن الكريم عن مجموعة من الذين في قلوبهم مرض
يسارعون في موالاة الذين كفروا، واللافت أن ذلك حصل ودولة الإسلام قائمة
وقوية، وبالتالي فلا عجب أن يوجد أمثال هؤلاء حيث المسلمون ضعفاء.
لقد احتج المنافقون الأوائل بأنهم يخشون أن تصيبهم دائرة، وقد يتذرع
المنافقون المعاصرون بأننا في الزمن الأمريكي الصهيوني، لكن الله تعالى
يطمئن المؤمنين قائلاً: ( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده
فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين).
فلا بد من التذكر الدائم لقدرة الله، ونصرة الله ، ومعية الله تعالى، أنه
سبحانه مع المؤمنين، ولن يضرهم من خذلهم من قومهم، ولا من خالفهم من
أعدائهم.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.