تصدمنا الأرقام التى أعلنت عن محاولات الانتحار فى مصر، إذ بلغت فىالعام الماضى 104 آلاف حالة، بمعدل نحو 14 محاولة يوميا. الأدهى من ذلكوالأمر أن معدلات الانتحار أصبحت تتزايد عاما بعد عام. ذلك أنه منذ أربعسنوات فقط (فى عام 2005)، وقعت فى مصر 1160 حالة انتحار (بخلاف المحاولاتالتى لم تنجح)، وفى العام الذى يليه وقعت 2355 حالة انتحار.
أما فى عام 2007 فقد انتحر 3700 شخص. وفى عام 2008 وصل الرقم إلى 4200 منتحر. إلى أن كسر حاجز الـ5000 منتحر فى عام 2009.
هذهالأرقام المخيفة تضمنتها دراسة صادرة عن مركز المعلومات بمجلس الوزراء وقدلخصتها جريدة الأهرام يوم الاثنين الماضى 6/9، وتضمنت الخلاصة معلوماتأخرى قيمة منها ما يلى:
● إن أغلب الذين يقدمون على محاولة الانتحار من الشباب الذين تتفاوت أعمارهم بين 15 و25 عاما، بنسبة 66.6٪.
●على الجملة فإن محاولات الانتحار بين الشبان أكثر منها بين الرجال، وفىالإناث أكثر من الذكور، وإن محاولات النساء للانتخار غالبا ما تتسم بعدمالجدية.
● إن تزايد المؤشرات بتلك المعدلات جعل مصر من بين الدولالتى تعانى أعلى معدلات الانتحار فى العالم. مقتربة بذلك من الدولالإسكندنافية التى تحتل القمة فى ذلك المجال، مع فارق جوهرى فى الدوافع.ذلك أنهم فى تلك الدول يقدمون على الانتحار جراء الرفاهية المطلقة وبعدإشباع كل حاجات الإنسان، فى حين أنهم فى مصر ينتحرون لأسباب معاكسة تماما،منها الفقر المدقع والبطالة والغلاء الفاحش (لاحظ أن المقارنة ليست منعندى وإن هذا الكلام منسوب إلى مركز المعلومات).
أبسط دلالة لتلكالمعلومات أنها شهادة على أن أحوال الناس فيما يسمونه أزهى عصور مصر تمضىمن سيئ إلى أسوأ. صحيح أن البعض يتباهون بعدد المنتجعات والسياراتوالمولات وأجهزة تكييف الهواء وملاعب الجولف، وتلك إضافات على المجتمعالمصرى لا تنكر، لكنها من نصيب مصر السياحية والتليفزيونية، والشرائح التىطفت على سطح مصر منذ سنوات الانفتاح. ولا علاقة لها بمصر الأخرى، التىيخرج منها المنتحرون وأقرانهم الذين يغامرون بالهجرة إلى الشواطئالأوروبية، ويتعرضون للغرق والموت حينا بعد حين.
أوافق على إرجاعأسباب الإقدام على الانتحار إلى الفقر والبطالة والغلاء الفاحش، لكننىأزعم أنها الأسباب الظاهرة والمرئية. وأذهب إلى أن الفقر فى مصر ليس أمراجديدا، ولا البطالة ولا الغلاء، فتلك عوامل موجودة منذ سنوات، والناسدأبوا على مقاومتها بمختلف السبل، وكان لديهم دائما أمل فى التغلب عليها،ولكن الجديد والخطير فى الأمر أن هذه العوامل اشتدت وطأتها خلال السنواتالأخيرة، فى حين فقد الناس الأمل فى إمكانية مقاومتها. وحين دب اليأس فىنفوسهم جراء ذلك، فإنهم لجأوا إلى الانتحار داخل البلد أو التسلل عبرالحدود والانتحار فى عرض البحر المتوسط.
ولذلك قلت فى مقام سابقإن أخطر ما تواجهه مصر الآن هو ذلك الشعور باليأس والاحباط الذى خيَّم علىالبلاد وأغلق أبواب المستقبل أمام العباد، الأمر الذى ألجأ الشباب خاصةإلى تفضيل الموت على استمرار الحياة بلا أمل فى المستقبل. وتلك بالمناسبةظاهرة جديدة على المجتمع المصرى، لم تكن معروفة بذلك الحجم فى السنواتالسابقة.
المعلومات الأساسية التى وردت فى الدراسة بالغة الأهميةوذات دلالات عميقة، وتستحق أن تكون محل دراسة جادة ومسئولة، لكن أخشى ماأخشاه أن يكون الرد الرسمى عليها هو حظر تداولها أو تنبيه مركز معلوماتمجلس الوزراء الذى لا بد أن تقدر له شجاعته، بعدم التدخل فى هذه الأمور،التى قد تستخدم فى التشهير بالبلاد.
لقد شاء حظنا حين كتب لنا أننلحق بالدول الإسكندنافية ألا ننافسها إلا فى معدلات الانتحار، كما فعلنامن قبل حين لم نسبق ألمانيا إلا فى حالات الإصابة بالحصبة الألمانى، إنلعنة «أزهى العصور» تلاحقنا من كل صوب!.
بقلم
فهمي هويدي