سطر يوم ٢٥ يناير ٢٠١١ تاريخا جديدا لمصر، ووضع البلاد على أعتاب مرحلة جديدة ستتجاوز حقبة طويلة تعاملت باستهانة وتبلد مع مطالب الناس، وخلقت دائرة جهنمية من الفشل والإحباط لم تعرفها مصر منذ عقود.
صحيح أن مصر لم تعرف نظاما ديمقراطيا حقيقيا لا فى العهد الملكى، رغم ليبراليته النسبية، ولا فى العهد الناصرى، رغم ثوريته، ولا فى عهد الرئيس السادات، رغم حنكته، إنما عرفت مؤسسات دولة تعمل بكفاءة ولو نسبية، ونخبة مهنية تفوقت فى الطب والهندسة وكثير من العلوم، وتعليماً عاماً افتخرنا به وسط جيراننا العرب، إلى أن جاء الحكم الحالى وشهدنا تدميراً لقيم الكفاءة والمهنية وليس فقط الجمود السياسى.
إن ما جرى يوم ٢٥ يناير الماضى لم يكن مصادفة أو رد فعل عشوائياً إنما هو حصاد كامل لسياسات مرة اعتمدت على المواءمات والتلفيق، وأظهرت بطانة جديدة طفحت طوال السنوات السابقة على سطح الحياة العامة، فقادت مؤسسات الدولة إلى ما يشبه الانهيار، وسيطرت على صحف الحكومة رغم جهلها، وجثمت على صدور الناس رغم أنفهم.
إن من يتصور أن يوم ٢٥ يناير حدث عابر فى تاريخ مصر مخطئ خطأ جسيما، وأن فتح ملف تزوير الانتخابات وإدارة المؤسسات العامة وفساد الإدارة وخطايا الحلول الأمنية سيعرف إلى أى حد جرى تجريف للحياة السياسية والثقافية، وإهدار لكرامة البشر وغياب أى نظام للمحاسبة، بصورة جعلت الناس لا ترى حلا إلا النزول للشارع.
لقد حصدنا ليس فقط نظاما غير ديمقراطى، إنما نظام معدوم الكفاءة والخيال جعل، لأول مرة فى تاريخ مصر المعاصر، معيار الاقتراب من السلطة ليس فقط الولاء، كما جرى فى العصور السابقة، إنما الجهل والفساد وانعدام الكفاءة، فشهدنا الانهيار الحقيقى فى مؤسساتنا الحكومية وشهدنا صحفا حكومية تفنن القائمون عليها فى تخريبها وهو أمر لم نره فى ظل هذه الصحافة المؤممة نفسها فى عهدى عبدالناصر والسادات، وعرفنا أن رواتب رؤساء مجالس إدارات كبريات الصحف الحكومية تصل إلى مليون واثنين مليون جنيه شهريا، وتعاملت الدولة معها باعتبارها من الأمور العادية دون وجود جهة واحدة تراقب أموال الشعب «السايبة».
وظهر جيل جديد أحبطته كل هذه الظواهر، وحوصرت طموحاته وقُتلت أحلامه ولم يعد أمامه إلا الانتحار غرقا فى عرض البحر من أجل الهجرة، أو حرقا فى قلب الشارع من أجل لقمة العيش، وأهينت طموحات السياسيين حين اعتبر أن احتجاجهم على تزوير الانتخابات نوع من التسلية.
إن التزوير الفج الذى جرى فى الانتخابات الأخيرة مثَّل عاملاً رئيسياً وراء تزايد أعداد المحتجين أمس الأول، فعدد النواب السابقين الذين نزلوا الشارع كان لافتا وهو أمر يدل على «عبقرية» أمين تنظيم الحزب الوطنى فى الفشل، وكيف أنه نجح فى نقل اعتراضات النواب من قلب البرلمان إلى احتجاجات محبطين فى قلب الشارع، بعد أن تصور أن احتكار الحديد يمكن أن ينتقل إلى احتكار السياسة والبشر.
إن ما فعله قادة الحزب الوطنى الجدد فى الانتخابات الأخيرة مسؤول مسؤولية مباشرة عما شاهدناه الثلاثاء الماضى، ليس فقط باختيار مرشحين معدومى الخبرة والمهارة السياسية ومنعزلين عن الناس، إنما أيضا فى تحويل ما عرف بحزب الدولة، منذ الاتحاد الاشتراكى، وحزب مصر والطبعة الأولى من الحزب الوطنى إلى شركة خاصة يقودها أمين تنظيم زاوج بين السلطة والمال، هادما فى الطريق كثيراً من تقاليد هذه الدولة.
لقد اكتشف قطاع واسع من شباب مصر ونخبتها وشرفائها أنهم لا يواجهون نظاماً تسلطيا كما جرى فى فترة سابقة، إنما «شلة توريث» استبعدت كل القوى والأفكار والرموز الإصلاحية الموجودة داخل النظام وخارجة، فى مشهد ترحم فيه الكثيرون على أيام الدولة التسلطية بعد أن شهدوا عصر العزب والمماليك الخاصة ومرحلة الفوضى والعشوائية واللانظام.
إن الحكم الذى كنا نطالبه بدمج القوى والحركات الاحتجاجية الجديدة فى العملية السياسية، قام ليس فقط باستبعادها واستمرار قهرها، إنما أيضا استبعد القوى السياسية الشرعية من الحياة السياسية فكافأ الوفد على انتخاباته الداخلية الديمقراطية بأن أسقط تقريبا كل مرشحيه، ولتخرج عمليا من ساحة العمل الشرعى القوى السياسية الجديدة والقديمة على السواء.
إن من يتصور أن مشكلة مصر فى الحكومة مخطئ، فمشكلتها فى أن رئيسها يحكم البلاد منذ ٣٠ عاما، وأن أى بلد فى أى مكان فى العالم مهما كانت «حكمة» رئيسه فلابد أن تكون النتيجة سلبية على كل المستويات، فالعالم لم يخترع نظام المدتين فى الحكم من فراغ، لأن أى رئيس أو مدير أو وزير يبقى فى مكانه عشرين أو ثلاثين عاما فلابد أن تكون النتيجة سلبية على المجتمع وفى قدرته على الأداء والتجديد فى عالم يتغير كل يوم.
إن مصر ببساطة ظهر فيها جيل جديد أراد الحكم أن يحشره فى خيارين إما تأييد الرئيس أو نجل الرئيس وقضى على كل البدائل الممكنة بحصار أمنى شل كل مناحى الحياة، فالأحزاب محاصرة، ومنظمات المجتمع المدنى موجودة بشرط ألا تكون مؤثرة، والجامعات يُعتدى فيها، جهارا نهارا، على أساتذة محترمين (كما جرى مع الدكتور عبدالجليل مصطفى فى جامعة عين شمس) دون أى حساب، والبلطجية يصولون ويجولون فى كل مكان من الانتخابات وحتى الأحزاب بتواطؤ الأجهزة الأمنية.
حصاد الثلاثين عاما هو أن يبقى الجميع فى الغرف المغلقة حتى الأحزاب الشرعية، وليس مسموحاً لأحد بأن يمارس العمل السياسى «بجد» وأن ينزل الشارع بغرض تداول السلطة مع الحزب الحاكم، وبما أن الأخير تجمد فى مكانه وغير قادر على منافسة أحد فى الشارع، فأصبح مثل التلميذ البليد فى حاجة إلى «برشامة» من أجل البقاء أو ادعاء النجاح، فكان الأمن هو ملاذه الوحيد.
إن من شاهد يومى الاثنين والثلاثاء الماضيين حوار اثنين من رجال الأمن على فضائيتين مصريتين، أحدهما كان مجدى علام مع صديقنا أمين إسكندر، والثانى اللواء فؤاد علام مع مصطفى علوى والنائب المحترم علاء عبدالمنعم، يكتشف حجم الفارق بين من تربوا فى العصر الحالى والعصور السابقة، فالأول اتهم المتظاهرين بالعمالة لجهات خارجية، وثورة تونس وقفت وراءها الجهات الخارجية نفسها، أما الثانى فتحدث عن المسؤولية السياسية للنظام السياسى والبطء فى معالجة المشكلات، فاللواء علام هو ابن الدولة المصرية بمميزاتها وعيوبها، وبالتالى لابد أن يمتلك مهارة ما فى مكان ما، أما الثانى فهو ابن «الشلة المصرية» التى فشلت حتى فى تعليم نوابها معنى سياسياً أو حتى القدرة على الدفاع الجيد عن النظام.
ستبقى مصر، رغم كل قنابل التخريب المنظم التى سقطت عليها، وحملات التسطيح والتدين المغشوش واللوثة الكروية التى شوهتها، وثقافة الراقصات وأشباه الرجال التى حاصرتها، لاتزال فيها قلوب تنبض بالحرية والعدالة، وشباب انتفض من أجل كرامته ومستقبل بلده، ولن يتراجع عما بدأه إلا بتغيير السياسات التى جعلتنا نحصد الفشل والمرارة والإحباط.
منقول من المصرى اليوم