بين الليبرالية و الدين، و تطرفيهما.
بالأعوام الأخيرة، قام العديدون بتناول مفهومي الليبرالية و الدين بالشرح، في محاولة لإزالة التصور الرابط كلاً منهما بتطرف يشابهه ظاهراً و يختلف كلياً عنه على المستويان الفكري و الواقعي، ذاك التصور الذي مازال منتشراً بين الغالبية العظمى رغم كل تلك التناولات، لذا يقوم التناول هنا على أساس مختلف كثيراً عن سابقه، فهو لا يقوم على أساس عرض آراء كاتبه في كلا الأمرين، و إنما عرض لكلا من آراء أحد كبار ممثلي الليبرالية في الدين أولاً، و في الليبرالية ثانياً، و هو عمرو حمزاوي*، و آراء أحد ممثلي الدين في الليبرالية أولاً، و الدين ثانياً، و هو صبحي صالح**.
يشير عمرو حمزاوي بالبداية أن الليبرالية شاع إستخدامها في الثقافة العربية ممن ينسبون نفوسهم إليها -و هم ليسوا جزء منها- على أنها ضد الدين، فأصبحت كلمة الليبرالية مرفقة من قبلهم دوماً مع كلمات ملحد، ضد ديني، و ضد إيماني، كأن لها ذات المعنى، أي كأن من يلحد يصبح تلقائياً ليبرالي، أو أن من يكون ليبرالياً يصبح تلقائياً ملحد، و هو خلط يؤكد على خطأه، لا فقط بسبب أن الليبرالية هي فكر إجتماعي و سياسي، بينما الإلحاد هو فكر عقائدي، بل أيضاً بسبب إمكان إجتماع الليبرالية و الإيمان بدين في شخص واحد، و مثاله هو ذاته مع الإسلام، فالإسلام، كما يراه، يمثل قمة عقائدية و أخلاقية، دين يحقق العدل و المساواة في أقصى معانيهما، مدللاً على هذا عبر قضية تكثر إثارتها من متطرفي اليسار، و هي قضية المرأة و الدين، فيذكر أن الإسلام يحقق للمرأة درجة عالية من الحرية و المشاركة الإجتماعية و ضمان الحقوق.
أما عن الليبرالية، يعود عمرو حمزاوي إلى الخلط الذي تحدث عنه، و يؤكد أن الليبرالية تحترم و تحرص علي عدم قمع كلا من الدين و المتدين، و أن لا علاقة لها بإنكار الأديان سواء كان قائماً على إنكار مصحوب بإحترام أم لا، فإحترامها للأديان لا يشمل أدنى إنكار سواء لأحدها أو جميعها، و يتمثل في الواقع بالمساواة بين متبعيها، بل أن الليبرالية تتمثل ببساطة في عدم قمع أي إنسان فكرياً أو عقائدياً أو إجتماعياً، و هنا يعود من جديد للخلط الشائع من قبل غالبية عظمى من الملحدين العرب، فيشير أنهم يمارسون ديكتاتورية فكرية تماثل ديكتاتورية فكرية أخرى أعتدناها، و هي ديكتاتورية المتطرف الديني، و يصيغ عمرو حمزاوي تلك الديكتاتورية في تعبير التطرف اليساري ليميزها عن الليبرالية النقية من التطرف، ثم يشير إلى أن أصحابها، ككل متطرف، يمتلكون تصور قاصر عن الآخر، تصور محصور في إطار غير متغير، مكتفي ذاتياً فلا يسعى لمعرفته، لذا هم، ككل متطرف أيضاً، يمارسون تلك الديكتاتورية جنباً إلى جنب مع الإقصاء الفكري الذي، من جديد، إعتدنا رؤيته في التطرف الديني، هذا الإقصاء الحادث بسبب الخوف النفسي الطبيعي من المجهول، لعدم معرفتهم بهذا الآخر.
و يحدد عمرو حمزاوي خاتمته للعلاقة بين الليبرالية و الإسلام تحديداً، فيعيد الإشارة إلى إنتشار التصورات المشوهة سواء عن الدين أو الليبرالية، و يذكر أن تلك التصورات المشوهة تمثل سبباً رئيسياً في التطرفات القائمة اليسارية منها و الدينية، و يوضح أنه كمؤيد لليبرالية يتفق مع الإسلام في كل شيء و يؤكد ضرورة إضافته كمرجعية إجتماعية و قانونية أساسية، هذا مع مصاحبته -لا ترئيسه على- المرجعية الثقافية للمجتمع و كذلك مرجعيات الأقليات و المرجعية القانونية المتراكمة للبشرية بشكل عام، و تلك الفكرة عن المرجعيات هي ما يمثل تحديداً الفكر الليبرالي، و هي أيضاً ما يمثل نقطة الإختلاف الوحيدة بينه و بين صبحي صالح.
فصبحي صالح يرى أن المرجعيات الثقافية و الخبراتية و مرجعيات الأقليات تقع في إطار المرجعية الإسلامية، فيتناول شرح هذا عبر تناول الليبرالية أولاً، بتبيين أن المفهوم الليبرالي لا يختلف في شيء عن مثيله الإسلامي بشكل جوهري، فهو يتفق مع الرؤية الليبرالية للحرية و العدالة الإجتماعية، و يؤكد بشكل عام على التمييز الذي قام به عمرو حمزاوي، و كذلك على المفهوم الليبرالي الذي صاغه، بإستثناء نقطة المرجعيات، فهو يرى أن الليبرالية تضيف منهجاً لإختيار المرجعيات زائد عن الحاجة، و يوضح هذا بحديثه من خلال حديثه عن الإسلام.
فيقول أن الإسلام يحتوي بذاته كدين دولة على منهج لضمان المرجعيات المتعددة، هذا المنهج المحدد في أمرين، أولهما هو تشديد الإسلام في المجال الإجتماعي و القانوني على الوجوب التام للمعاملة المتناسبة مع المرجعية الثقافية، و المعاملة المستخدِمة لمرجعيات الأقليات الدينية في حسم أمورهم القانونية، و ثاني أمر هو التشديد الإسلامي كذلك على ضرورة الأخذ بالمرجعيات الخبراتية المتمثلة في مرجعيات عديدة كالمرجعية القانونية و الدستورية المتراكمة للبشرية مثالاً، مما يبين وجود منهج المرجعيات المتعددة كجزء أساسي من الإسلام و نظام دولته، لذا يرى عدم الحاجة لصنع منهج مماثل بخارج الإسلام لعدم إفتقاد الإسلام مثله.
و في خاتمته، يؤكد صبحي صالح على إتفاقه مع ما ذكره عمرو حمزاوي من توضيح للديكتاتوريات الفكرية المتطرفة دينياً و يسارياً، و يشير كذلك للتصورات المشوهة عن الآخر، فتحدث بشكل سريع عن تلك المفاهيم التي أوضحها عمرو حمزاوي بشكل أكثر من كافي مما لا يدع مجالاً لإضافة المزيد، إلا أنه يركز على التصور المشوه عن الإسلام معبراً عن أسفه الناجم عن إنتشار النقص المعرفي و الأحكام قصيرة الأفق التي تظهر الإسلام في مثل تلك الصورة البشعة التي تتخطى حتى أغلب التطرفات الدينية المنسوبة له.
* عمرو حمزاوي هو دكتور في العلوم السياسية، و هو من أهم ممثلي الليبرالية سياسياً و فكرياً بمصر.
** صبحي صالح هو خبير قانوني و دستوري، و من ممثلي الإعتدال الديني سياسياً بمصر.