مصر لم تذهل العالم بثورتها فقط.. لكنها علي مدار تاريخها تخصصت في إدهاش العالم وإصابته بالذهول.. مصر أذهلت العالم بصبرها علي الحكام الظلمة.. أذهلت العالم بقدرة شعبها علي هضم الزلط والفراخ الفاسدة.. أذهلت العالم بقدرتها علي تحمل التلوث والعيش فوق فوهة بركان الفساد.. أذهلت العالم بتكيفها مع الاحتلال بكل صنوفه وألوانه.. بعبادتها للبشر.. بعبقريتها في صنع الفراعين من الورق وصنع الأصنام من القش.. ببراءة اختراعها للسحابة السوداء.. بفنها المعماري في نشر العشوائيات.. وبقدرة شعبها علي التبول والتبرز في أعظم آثار العالم.. وبقبول شعبها لحكم العبيد.. وبأن حكامها الأجانب هم الأعظم عبر التاريخ وأن حكامها من أبنائها هم الأكثر فشلا عبر التاريخ أيضا.
العالم دائما مذهول مما يحدث في مصر.. العالم في كل العصور مندهش من عبقرية المصريين في صنع الفوضي والتعايش معها.. فالمصريون هم الذين ابتدعوا الفوضي الخلاقة.. عرفوها منذ أيام الفراعنة.. وكل ما تعانيه مصر وما كابدته طوال عصورها كفيل بإبادة شعوب بأكملها إذا تعرضت لما كابدته مصر.. لكن المصريين تعايشوا وتناسلوا وتكاثروا رغم مبيدات الشعوب التي شربوها.. المصريون عاشوا حياتهم كلها بالصدفة.. وصاروا حكاما بالصدفة ومحكومين بالصدفة.. وقد قال لي أحدهم مرة وأكاد أزعم أنه علي صواب: المصريون لا يصلحون حكاما أو مسئولين.. لكنهم خلقوا ليكونوا محكومين.. هم يصلحون لأن يكونوا محكومين لذلك نجح لديهم الحكام الأجانب.. وفشل الحكام المصريون.. وليس غريبا في ظل هذا المعيار أن ينجح محمد علي وصلاح الدين الأيوبي وقطز والمماليك والعثمانيون في إدارة شئون مصر.. ولعل هذه آفة عربية عامة وليست فقط آفة مصرية.. فالعرب لديهم شعور قديم بالدونية وسرعان ما ينبهرون بالأجنبي.. وهم قوم ببغاويون مقلدون.. متبعون وليسوا مبتدعين.. يستوردون كل شيء من الخارج.. يموتون في المستورد حتي إذا كان مغشوشا ويحتقرون المحلي حتي إذا كان جيدا.. لذلك يعشقون الحاكم المستورد.. والمسئول المستورد والمنهج المستورد.. والثورات المستوردة بتقاليعها وموضتها.. وتنجح في بلادهم المؤامرات الأجنبية والمخططات الخارجية.. العرب مناعتهم ضعيفة أمام الأجنبي.. لكن مناعتهم قوية جدا في مواجهة أي فيروس محلي.. والعرب هم الذين اخترعوا المقولة الشهيرة: لا كرامة لنبي في قومه وهي صحيحة تماما فالشيطان الأجنبي عندهم نبي وملاك.. والنبي المحلي شيطان.. والمصريون يقولون: "الأقارب عقارب" وهذه أيضا مقولة صحيحة تماما.. فنحن نكره أن يسودنا قريبنا لكننا نعشق أن يسودنا الأباعد.
* * *
يا أصدقائي الأعزاء نحن لا تعيش لنا ثورة.. ولا تعيش لنا حكومة.. ومن الآن فصاعدا ستبقي مصر فوق رمال متحركة وربنا يستر