[size=18]
مَصَادِرُ التّصوُّفِ وَمَآخِذُهُ
إن أمر التصوف كله مختلف فيه
, فكما أختلف في أصله واشتقاقه , وحده وتعريفه , بدئه وظهوره , وفي أول من
تسمى به وتلقب به , كذلك اختلف في منبعه ومأخذه , ومصدره ومرجعه , فتشعبت
الآراء وتنوعت الأقوال , وتعددت الأفكار , فقال قائل : إنه إسلامي بحت في
أشكاله وصوره , ومبادئه ومناهجه , وأصوله وقواعده , وأغراضه ومقاصده , حتى
في ألفاظه وعباراته , وفلسفته وتعاليمه , ومواجيده وأناشيده , ومصطلحاته
ومدلولاته , وهذا هو إدعاء الصوفية ومن والاهم , وناصرهم , ودافع عنهم .
وقال
قوم : لا علاقه له بالإسلام إطلاقا , قريبة ولا بعيدة في اليوم الذي نشأ
فيه , ولابعد ماتطور , وهو أجنبي عنه كاسمه , فلذلك لا يفتش عن مصادره
ومآخذه في القرآن والسنة وإرشاداتهما , بل يبحث عنها في الفكر الأجنبي ,
وهو رأي أكثر السلفيين ومن نهج منهجهم وسلك مسلكهم وكذلك الفقهاء
والمتكلمين من أهل السنة من المتقدمين , والأكثرية الساحقه من المستشرقين ,
والكثير من الباحثين والمفكرين المتحررين من الجمود وعصبية التقليد , من
المتأخرين .
وقالت طائفة : إنه اسم للزهد المتطور بعد القرون
المشهود لها بالخير كردّ فعل لزخرفة المدينة وزينتها التي انفتحت أبوابها
على المسلمين بعد الغزوات والفتوحات وانغماسهم في ترف الدنيا ونعيمها , ثم
حصلت فيه التطورات , ودخلت أفكار أجنبية والفلسفات غير الإسلامية وذهب إلى
هذا الرأي ابن تيمية والشوكاني من السلفيين وغيرهم من بعض أعلام أهل السنة ,
حتى الصوفية أنفسهم وبعض المستشرقين .
وقال الآخرون : إن التصوف
وليد الأفكار المختلطة من الإسلام واليهودية والمسيحية ومن المانوية
والمجوسية والمزدكية , وكذلك الهندوكية والبوذية , وقبل كل ذلك من الفلسفة
اليونانية وآراء الأفلاطونية الحديثية , وتمسك بهذا الرأي بعض الكتّاب في
الصوفية من المسلمين وغير المسلمين .
فهذه هي خلاصة الاختلاف
والآراء المختلفة في أصل التصوف ومأخذه , ننقاشها في هذا الباب , وندعم
رأينا الذي نراه من بين هذه الآراء المتعددة , بالأدلة والشواهد , الخارجية
منها والداخلية , فنقول : إن أفضل طريق للحكم على طائفة معينة وفئة خاصة
من الناس هو الحكم المبني على آرائه وأفكاره التي نقلوها في كتبهم المتعمدة
والرسائل الموثوق بها لديهم بذكر النصوص والعبارات التي يبني عليها الحكم ,
ويؤسس عليها الرأي ولا يعتمد على أقوال الآخرين ونقول الناقلين , اللهم
إلا للاستشهاد على صحة استنباط الحكم وإستنتاج النتيجة .
وهذه
الطريقة ولو أنها طريقة وعرة شائكة , صعبة مستعصبة , وقل من يختارها
ويسلكها , ولكنها هي الطريقة الصحيحة المستقيمة التي يقتضيها العدل
والإنصاف .
وعلى ذلك عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل
والأواخر , وأقاويلهم المنقولة منهم , والمأثورة في كتب الصوفية , القديمة
والحديثة نفسها , نرى بونا شاسعا بينهما وبين تعاليم القرآن والسنة , وكذلك
لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه
وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون , بل بعكس ذلك نراها
مأخوذة مقتبسة من الرهبنة المسيحية , والبرهمة الهندوكية , وتنسك اليهودية ,
وزهد البوذية , والفكر الشعوبي الإيراني المجوسي عند الأوائل , والغنوصية
اليونانية والأفلاطونية الحديثة لدى الذين جاءوا من بعدهم , وتدل على ذلك
تعريفات القوم للتصوف , التي نقلناها عن كبارهم فيما سبق .
وكما تنطق
وتشهد تعاليمهم التي هي بمثابة الأسس للتصوف , والضوابط لمن يدخل في
طريقتهم .
فنبدأ أولا بإبراهيم بن أدهم , وهو من الطبقة الأولى
وأئمة التصوف الأوائل , وكثيراً ما تبدأ كتب طبقات الصوفية بذكره واسمه ,
ولا يخلوا كتاب من كتب التصوف وسيرته .
ومما يذكر بيانا لشأنه
الرفيع ومكانته السامية أنه كان من أبناء الملوك وملكا لبلخ , وتزوج من
امرأته جميلة , وله ولد , ولكنه ترك الملك والزوجة والأولاد , وكل من كان
يملكه , للنداء الغيبي , أو للقاء الخضر الذي لقنه ذلك , مثل ما ترك بوذا
ملكه وزوجته , وأبنه وملاذ الدنيا وزخارفها طبقا بطبق , وحذو القذة بالقذة ,
خلافا لتعاليم الإسلام وأسوة الرسول وسيرة الصحابة , ولا يوجد له أي مثال
في الكتاب ولا في السنة , ولا من السلف الصالح ومع ذلك يبجّل الصوفية ذكره ,
ولذلك يجعلونه قدوة يقتدى , ومثالا يحتذى , ويفتخرون بذكره وأحواله , مع
أن أحواله تلك ليست إلا ناطقة بالبوذية المنسوخة الممسوخة التي لم ينزل
الله بها من سلطان .
فنود أن نورد تلك الحكاية الصوفية الباطلة , من
التصوف القديم الأصيل , ومن الصوفي الذي يعدّ من الأعلام والأقطاب مقارنة
بقصة بوذا , المنقولة من الكتب البوذية , ولبيان أنها تشتمل على ترهات
وأكاذيب فاحشة مكشوفة تنطق بكونها مختلفة موضوعة مكذوبة , وننقل هذه القصة
من تذكرة صوفية قديمة ( تذكرة الأولياء ) لفريد اليدن العطار , مقتبسين
ترجمتها العربية من صادق نشأت :
( إن إبراهيم بن أدهم كان ملكا لبلخ
, وتحت إمرته عالم , وكانوا يحملون أربعين سيفا من الذهب وأربعين عمودا من
الذهب من أمامه ومن خلفه , وكان نائما ذات ليلة على السرير , فتحرك سقف
البيت ليلا , كأنما يمشي أحد على السطح , فنادى : من هذا .. ؟ فقال : صديق
فقدت بعيرا أبحث عنه على هذا السقف , فقال : أيها الجاهل , أتبحث عن
البعير فوق السطح ...؟ فقال له : وأنت أيها الغافل تطلب الوصول إلى الله في
ثياب حريرية وأنت نائم على سرير من ذهب ...؟ فوقعت الهيبة في نفسه من هذا
الكلام , واندلعت في قلبه نار , فلم يستطع النوم حتى الصباح , وعندما أشرق
الصبح ذهب إلى الإيوان وجلس على السرير متحيرا مفكرا حزينا , ووقف أركان
الدولة كل في مكانه واصطف الغلمان وأذنوا إذنا عاما , فدخل رجل مهيب من
الباب بحيث لم يكن لأي أحد من الخدم أو الحشم الجرأة على أن يقول له من أنت
, ولم ينبسوا ببنت شفه , وتقدم الرجل حتى واجه سرير إبراهيم , فقال له :
ماذا تريد ..؟ قال : أنزل في هذا الرباط , قال : ليس هذا برباط , إنما هو
قصري , وإنك لمجنون , فقال : لمن كان هذا القصر قبل هذا ؟ قال : كان لأبي ,
قال وقبل ذلك , قال : كان ملكا لجدي ... وقبل ذلك ؟ قال : ملكا لفلان ,
قال : أو ليس الرباط هو ما يحل به أحد و يغادره الآخر .. ؟ قال هذا و
اختفى , وكان هو الخضر عليه السلام , فازدادت حرقة روح إبراهيم ولوعته ,
وازداد ألمه حدة نتيجة لهذه الحال , وازدادت هذه الحال من واحد إلى مائة
ضعف , إذ أنه رأى أنه قد اجتمع ما شاهده نهارا مع ما وقع ليلا ولم يعرف
مما سمع , ولم يعلم ماذا رأى اليوم , فقال : أسرجوا الجواد لأني أريد
الذهاب للصيد , فقد حدث لي اليوم شيء لست أدري ما هو , فيا إلهي إلى أين
تنتهي هذه الحال ... ؟ فأسرجوا له جوادا , وتوجه للصيد , فكان يتجول في
البرية دهشا بحيث لم يعرف ماذا يفعل , فأنفصل عن جيشه وهو في تلك الحال من
الدهش , فسمع صوتا في الطريق يقول له : انتبه , فانتبه , ولم يصغ إليه ,
وذهب وجاءه هذا النداء للمرة ثانية , فلم يعره سمعا للمرة الثالثة نفس ذلك
النداء , فأبعد نفسه عنه , وسمع للمرة الرابعة من يقول : ( انتبه قبل أن
تنبه ) ففقد صوابه تماما وفجأة ظهرت غزالة فشغل نفسه بها , فأخذت الغزالة
تخاطبه قائلة : إنهم بعثوني لصيدك , وإنك لن تستطيع صيدي , ألهذا خلقت ؟ أو
بهذا أمرت ؟ إنك خلقت للذي للذي تعمله وليس لك عمل آخر , فقال إبراهيم :
ترى ما هذه الحال ....؟ وأشاح بوجهه عن الغزالة , فأرتفع نفس ذلك الصوت
الذي قد سمعه من الغزالة من قربوس السرج , فوقر في نفسه الخوف والفزع
وأزداد كشفا , وحيث أن الحق تعالى أراد أن يتم الأمر ارتفع ذلك الصوت ثلاث
مرات أخر من حلقة جيبه , وبلغ ذلك الكشف هنا حد الكمال , وأنفتح عليه
الملكوت ونزل , وحصل له اليقين , فابتلت الملابس والجواد من ماء عينيه ,
وتاب توبة نصوحا , وانتحى ناحية من الطريق , فرأى راعيا يرتدي لبادا , وقد
وضع قلنسوة من اللباد على رأسه , وأمامه الأغنام وأخذ منه اللباد ولبسه
ووضع قلنسوة اللباد على رأسه وطفق يسير راجلا في الجبال والبراري هائما على
وجهه ينوح من ذنوبه , ثم غادر المكان إلى أن بلغ نيسابور , فأخذ يبحث عن
زاوية خالية يتعبد فيها حتى وصل إلى ذلك الغار المعروف واعتكف فيه تسعة
أعوام .
ومن ذا الذي يعلم ما كان يفعله هناك في الليل والنهار , إنه
ينبغي أن يكون رجلا عظيما ذا مادة واسعة حتى يستطيع الإقامة في مثل ذلك
المكان , وصعد إبراهيم يوم خميس إلى ظاهر الغار وجمع حزمة حطب واتجه في
الصباح إلى نيسابور حيث باعها , وصلى الجمعة واشترى بثمن الحطب خبزا ,
وأعطى نصفه لفقير وتناول النصف الآخر , وأتخذ منه إفطاره وداوم صيامه حتى
الأسبوع التالي , وبعد أن وقف الناس على شأنه هرب من الغار وتوجه إلى مكة ,
وقيل أنه بقي أربعة عشر عاما يطوي البادية حيث كان يصلي ويتضرع طوال
الطريق حتى أشرف على مكة , وروي أنه كان له طفل رضيع عند مغادرته بلخ ,
ولما أيفع طلب من أمه أباه , فقصت له الأم الحال قائلة : إن أباك قد تاه ,
ونقل عنه أنه قال : عندما كنت أسير في البادية متوكلا , ولم أتناول شيئا
مدة ثلاثة أيام جاءني إبليس وقال : أنت ملك , وتركت هذه النعمة لتذهب جائعا
إلى الحج ...؟ لقد كان بمقدورك الحج بعز وجلال حتى لا يصيبك كل هذا الأذى ,
قال : عندما سمعت هذا الكلام منه رفعت صوتي وقلت : إلهي !! سلطت العدو
على الصديق حتى يحرقني فأغثني حتى أستطيع قطع هذه البادية بعونك , فسمعت
صوتا يقول : يا إبراهيم ! ألق ما في جيبك حتى تكشف ما هو في الغيب فمددت
يدي إلى جيبي فوجدت أربعة دوانيق فضية كانت قد بقيت منسية , ولما رميتها
جفل إبليس مني وظهرت قوة من الغيب ) .
وورد ذكره وحكايته أيضا في (
طبقات الصوفية ) للسلمي .
وفي ( حلية الأولياء ) للأصبهاني .
وفي
( الرسالة ) للقشيري .
وفي ( جمهرة الأولياء ) للمنوفي الحسيني .
وفي
( نفحات الأنس ) للجامي .
وفي ( طبقات الأولياء ) لابن الملقن
المتوفى 804 هـ .
وفي ( الطبقات الكبرى ) للشعراني .
فهذه
هي قصة إبراهيم بن أدهم , وفيها ما فيها من ترك الأهل والزوج والولد بدون
جريمة إرتكبوها , وإثم اقترفوه , خلافا لأوامر القرآن وإرشادات الرسول صلى
الله عليه وسلم , المشهورة المعروفة شبها ببوذا , وهاهي خلاصة قصته :
(
وكانت قبيلة ساكياس تقطن في شمال بنارس , وهي التي ولد فيها أواسط القرن
السادس قبل الميلاد , وقد مات في سنة 478 قبل الميلاد بعد أن عمر ثمانين
عاما . وتزوج بوذا في سن التاسعة عشرة ابنة عمه , وكان في رغد وسعادة .
وبينما كان يسير يوما إلى الصيد وهو في التاسعة والعشرين شاهد رجلا قد بلغ
من كبر سنه منتهى الضعف والعجز , ورأى في وقت آخر شخصا مبتلى بمرض استعصى
علاجه ويحتمل الآلام وبعد مدة أخرى تأثر واشمأز لرؤية منظرا كريها لجثة في
حالة من الفساد , وكان خادمه وصاحبه الوفي المسمى ( جانا ) يذكره وينبهه في
كل هذه الحالات ويقول له : ( هذا هو مصير حياة البشر ) وشاهد بوذا أحد
النساك يمر عليه وهو في منتهى الراحة والأبهة والكرامة فسأل جانا ما حال
هذا الرجل .. ؟ فحكى له جانا تفصيلا عن أخلاق الزهاد الذين أعرضوا عن كل
شيء وعن أحوالهم , وقال له : إن هؤلاء الجماعة في سير وأرتحال دائم وهم
يعلمون الناس أثناء سياحتهم ورحلاتهم تعاليم هامة بالقول والعمل .
والخلاصة
أنه برغم إختلاف الروايات لا شك في أن ذهن هذا الأمير الشاب قد أخذ يضطرب
تدريجيا وينفر من الحياة وضوضائها .
ووفد عليه رسول يوما في أثناء
أزماعه العودة من النزهة وبشره بميلاد ولد هو أول مولود له , فقال بوذا
لنفسه في تلك الحالة النفسية المضطربه دون أن يشعر : ( ما هي ذي رابطة
جديدة تربطني بالدنيا ) . والخلاصة أنه عاد إلى المدينة بينما كان المطربون
يلتفون حوله . فطرب ورقص في تلك الليلة أقاربه وذوو رحمه فرحا بالمولود
الجديد . لكن بوذا كان من الامتعاض والاضطراب بحيث لم يكترث بتلك الأوضاع
أبدا . وأخيرا نهض من فراشه في آخر الليل كمن التهمت النار داره وأوعز إلى
جانا أن يحضر له الفرس ومد رأسه في هذه الأثناء إلى غرفة زوجته وولده
الوحيد من غير أن يوقظهما وعلى العتبة أخذ على نفسه عهدا ألا يعود إلى داره
ما لم يصبح ( بوذا ) أي ( حكيما مستنيرا ) وقال :
( أذهب لأعود إليكم
معلما وهاديا لا زوجا ووالدا ) والخلاصة أنه خرج مع جانا وهام في البراري ,
وفي هذه اللحظة ظهر في السماء ( مارا ) أي الوسواس الكبير ( إبليس أو
النفس الأمارة ) ووعده بالملك والعز في الدنيا بأسرها لكي يرجع عن عزمه
لكنه لم يقع في شرك الوسوسة . فسار بوذا قليلا في تلك الليلة على شاطئ
النهر ثم وهب لجانا جوهره وملابسه الفاخره وأعاده ومكث سبعة أيام بلياليها
في غابة ثم التحق إلتحق بخدمة برهمي يدعى ( الارا ) كان في تلك البقعة
وأختار بعد ذلك صحبة برهمي آخر يسمى ( أودراكا ) وتعلم من هذين الرجلين
حكمة وعلوم الهند كلها , ولكن قلبه لم يستقر بعد فذهب إلى غابة كانت في أحد
الجبال , وهناك صحب خمسة من التلاميذ الذين كانوا يحيطون به ومارس التوبة
والرياضات الشاقة ست سنين حتى اشتهر في تلك الناحية , فاعتزم لهذا أن يهجر
ذلك المكان ولما قام ليذهب سقط على الأرض لشدة ضعفه وعجزه , وغاب عن وعيه
بحيث ظن تلاميذه أنه فارق الحياة , ولكنه عاد إلى رشده فترك الرياضات
الشاقة منذ ذلك الحين وأخذ يأكل طعامه بانتظام , ولما رأى التلاميذ الخمسة
الذين كانوا في صحبته أنه مل من الرياضة نفضوا أيديهم من إحترامه وتركوه
وذهبوا بنارس .
أما بوذا فإنه ترك ملذات الدنيا وثروتها والمقام
فيها حتى ينال الضمير والطمأنينة عن طريق التعلم والفلسفة وحكمة الآخرين
فلم يستطع أن ينال بتلك الرياضة والتوبة طمأنينة القلب التي كان يصبوا
إليها والحاصل أنه بقي حيران في أمره ذاهلا وفي نفس ذلك اليوم الذي تفرق
فيه عن تلامذته مكث بوذا تحت شجرة يتأمل ويفكر في نفسه , ماذا يعمل ... ؟
وأي طريق يتبع .. ؟ وهاجمته وساوس كثيرة وتاقت نفسه إلى الزوجة والولد
والجاه والثروة والترف والنعيم , واستمر هذا الكفاح والجهاد مع النفس حتى
غروب الشمس . ونتيجة لهذا الكفاح اتصل ( بنير فانا ) وتأكد لديه أنه أصبح (
بوذا) أي أنه نال الإشراق واستنار , وحينئذ نال بوذا ما كان يصبو إليه من
الراحة والطمأنينة . لذلك عزم أن يمارس الإرشاد . وأن يعرض رغبته على
الآخرين , وكان بوذا وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره فقصد في بادئ
الأمر أستاذيه ( الارا ) و ( أودراكا ) ولكنه علم بعد , بأنهما قد توفيا ,
فذهب إلى تلامذته الخمسة من بنارس وأرشدهم وجعلهم من أتباعه , وآمن به أبوه
وأمه وزوجته كذلك , ثم أمر زمرة من خواص مريديه أن يقوموا بإرشاد الناس )
.
فهذه هي خلاصة قصة بوذا , وهي عين ما ذكره الصوفية عن
إبراهيم بن أدهم ابن الأمير البلخي الذي طلق الدنيا وتزيّا بزيّ الدراويش ,
وبلغ درجة أكابر الصوفية برياضته الطويلة , وتلك صورة طبق لأصل لما كانوا
قد سمعوه عن حياة بوذا .
ثم علّق عليه الدكتور قاسم غني الباحث
الإيراني بقوله :
( وحدس ( جولدزيهر ) يمكن أن يكون صحيحا وهو من
الأحتمالات القريبة من الواقع , وقد شوهدت لها نظائر كثيرة – إلى أن قال -
: وإذا ما قارن أحد بين قصة بوذا كما وردت في مدونات البوذيين بقصة
إبراهيم بن أدهم ذات الطابع الأسطوري , الواردة في كتب تراجم العارفين مثل (
حلية الأولياء ) للأصفهاني , و ( تذكرة الأولياء ) للشيخ العطار وجد شبها
عجيبا بين تلك القصتين يستلف نظرة ) .
هذا وهناك أقوال لإبراهيم
بن أدهم وغيره من كبار الصوفية وأقطابهم في الزواج والأولاد تخبر بجلاء عن
مواردها ومنابعها , فها هي تلك الأقوال من أهم كتب الصوفية :
ينقل
الطوسي والعطار عن إبراهيم بن أدهم أنه قال :
( إذا تزوج الفقير فمثله
مثل رجل قد ركب السفينة , فإذا ولد له ولد قد غرق ) .
ونقل
السهروردي عنه أنه قال : ( من تعود أفخاذ النساء لا يفلح ) .
ونقل أبو
طالب المكي - وهو من أعلام الصوفية البارزين وأئمتهم المتوفى سنة 386 هـ –
عن قطب من أقطاب الصوفية الأوائل عن أبي سليمان الداراني المتوفى سنة 215
هـ :
( من تزوج فقد ركن إلى الدنيا ) .
ونقل السهروردي في (
عوارفه ) الذي هو أشهر كتاب في التصوف عن أبي سليمان الداراني أيضا أنه قال
: ( ما رأيت أحدا من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته ) .