لم يعد موضوع التصوف الإسلامي يجذب إليه الدارسين المتخصصين , من المسلمين والمتخصصين فقط , وإنما أصبح موضوع يجذب إليه القاريء العادي , الذي أصبح يحس بوطأة الحياة المادية والعبثية المعاصرة على نفسه , والذي بات بحاجه إلى ما يرضي عقله , ويشبع روحه ويعيد إليه ثقته بنفسه , وطمأنينته التي بدأ يفقدها في زحمة الحياة ألماديه , وما فيها من ألوان الصراع العقائدي والفكري , وبهذا يحقق مع التصوف إنسانيته .
والتصوف ليس هروبا من واقع الحياة كما يقول خصومه , ولا انزواء أو خلوة فحسب , وليس زهدا ولبس الصوف فقط , وإنما هو محاولة للإنسان للتسلح بقيم روحيه جديدة تعينه على مواجهة الحياة المادية , وتحقق له التوازن النفسي حتى يواجه مصاعبها ومشكلاتها , وبهذا المفهوم يصبح التصوف ايجابيا لا سلبيا , ما دام يربط بين حياة الإنسان ومجتمعه , ويوازن بين رغباته الروحية والمادية .
وفي التصوف الإسلامي من المباديء الايجابية ما يحقق تطور المجتمع إلى الإمام , وذلك من خلال تأكيده على محاسبة الإنسان لنفسه باستمرار ليصحح أخطائه ويكمل النفس بالفضائل , وجعل نظرته إلى الحياة معتدلة فلا يتهالك على شهواتها , وينغمس في أسبابها إلى الحد الذي ينسى فيه نفسه وربه , فيشقى شقاء لا حد له , والتصوف الحقيقي ينظر الى الحياة على إنها وسيلة وليست غاية , بحيث يأخذ منها كفايته ولا يصبح خاضعا لحب المال والجاه , ليستعلي بهما على الآخرين , وهو بذلك يتحرر تماما من شهواته وأهوائه وباراده حرة .
والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هو التصوف ؟ وما هي الخصائص العامة التي اذا وجدت , يصح إن نصفها بأنها صوفية ؟
نقول بشكل مبدئي للإجابة عن هذا السؤال , إن التصوف بوجه عام هو طريقة معينه في السلوك يتخذهما الإنسان للوصول الى الكمال , ومعرفة الحقيقة , وبلوغ السعادت الروحية .
على إن كلمة التصوف , وان كانت من الكلمات الشائعة , إلا إنها في نفس الوقت من الكلمات الغامضة والتي تتعدد مفاهيمها وتتباين أحيانا .
والسبب في ذلك إن التصوف كان يعده الكثيرين قاسما مشتركا في كثير من الأحيان بين ديانات وفلسفات وحضارات متباينة وفي عصور مختلفة , ولكننا نقول ان الرهبنة والغنوصية والفلسفات البوذية والهندوكية والزرادشتية ليست تصوفا , فالتصوف الاسلامي , هو من روح القران الكريم وهدي نبيه الكريم , وانه ما نراه من اختلاف بين مناهج الصوفية , ليس بغريب , فمن الطبيعي إن يعبر كل صوفي عن تجربته في إطار ما يسود مجتمعه من عقائد وأفكار وأحداث معاصرة له , ليتفاعل مع ما يسود بيئته وعصره من ازدهار أو خمول فيكون بذلك سلوكه الصوفي كردة فعل لواقعه الذي يعيش فيه .
ومن الجدير بالذكر إن التجربة الصوفية هي واحدة في جوهرها , ولكن الاختلاف بين صوفي وأخر , راجع أساسا إلى تفسير التجربة ذاتها التي يمر بها الصوفي للوصول الى الحقيقة والكمال الروحي , تبعا للاحوال والمقامات التي يمر بها الصوفي .
والتصوف أولا وقبل كل شيء , يمثل تجربه خاصة , وليس شيئا مشتركا بين الناس جميعا , ولكل صوفي طريقة خاصة في التعبير عن حالاته , فهو بعبارة أخرى يشكل خبرة ذاتية , وهذا يجعل من التصوف شيئا قريبا إلى الفن , خصوصا وان أصحابه يعتمدون الأسلوب الرمزي في وصف حالاتهم , وذلك لإخفاء أذواقهم عمن ليس أهلا لها , ولهذا نجد بعض صوفية الإسلام يقولون : إن عدد الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق , تأكيدا منهم على الفروق الفردية بين الصوفية , واستحالة مطابقة تجربة لتجربة أخرى في ميدان التصوف .
ومن طريف ما يروى في التصوف الإسلامي , من إن علومه كلها ذوق , إن تلميذا للصوفي المشهور محي الدين ابن عربي جاء يوما ليقول له : ( إن الناس ينكرون علينا علومنا , ويطالبوننا بدليل عليها ) فقال له ابن عربي ناصحا : ( إذا طالبك احد بالدليل والبرهان على علوم الأسرار الإلهية , فقل له : ما الدليل على حلاوة العسل ؟ فلا بد إن يقول لك : هذا علم لا يحصل إلا بالذوق ! فقل له هذا مثل ذاك ).