عشق السلطة والهاجس الأمنى شكّلا دائماً حالة من القلق لدى الحاكم على مر العصور، وأصبح هاجس الأمن متلازماً مع شخص الحاكم، مما أوجد له جهازاً يكون عيناً له على البلاد لمعرفة القوة المعادية والمعارضة له فى الداخل والخارج، والملاحظ أن هذا الجهاز الأمنى بمختلف أسمائه لم يكن يعمل وفقاً للوائح والقوانين مما جعل بصمته واضحة داخل المعتقلات والسجون وخارجها، صانعاً إرهابه الوحشى بأساليب القتل والتعذيب والتلفيق وتأميم الحريات ليصبح أمن النظام والحكام وليس أمن المواطنين والبلاد.
عبر السطور التاريخية القادمة نتعرف على أساليب الجهاز الأمنى مع اختلاف أسمائه.. وهل ظلت كما هى أم تغيرت.
بدأ هذا الجهاز مع قيام الدولة الحديثة، تزامناً مع إرادة الحاكم ورغبته فى الحماية واستمرار نظامه، لذلك حرص على تخصيص فئة من رجال الشرطة لملاحظة ومراقبة المواطنين الذين يخشى من تصرفاتهم، ويرجع الوجود الأجنبى فى تنظيمات البوليس بالمدينة المصرية إلى عام ١٨٥٧،
عندما أصدر محمد سعيد باشا، والى مصر، قراره بإصدار اللائحة العمومية فيما يخص ترتيب وضبط الأهالى الأجنبية، والتى نصت على إحداث قلم مخصوص فى كل من ضبطتى جهاز أمن القاهرة والإسكندرية، واختصاص هذا القلم بترتيب الحراسات، ويباشر بنفسه إجراءات تفتيش الفنادق والمنازل المعدة لإقامة الأجانب، كما بدا أيضاً واضحاً منذ عصر الخديوى إسماعيل، عندما اختلف مع الأمير فاضل وبعض أمراء العائلة المالكة وخشى على عرشه منهم وبدأ يتجسس عليهم ويتلقى تقارير عنهم.
وبعد قيام الثورة العرابية أصبح فى جهاز الشرطة مسؤولون، ولم يكن لهم اسم معين واختصوا بتعقب العُرابيين والتعرف على أسرارهم، ومع تولى توفيق أصبح هناك جهاز يختص بالأمن السياسى وكان يركز جهده على الحدود بين مصر والسودان، وبعد قيام الثورة المهدية سمى بـ«جهاز أمن الحدود»، وبدأت التسمية الجديدة لجهاز الأمن السياسى تأخذ مكانها مع العقد الأول من القرن العشرين.
أما عن البداية الفعلية لهذا الجهاز فكانت فى ٢٠ فبراير ١٩١٠ عندما أطلق شاب مصرى الرصاص على رئيس وزراء مصر بطرس باشا غالى فأرداه قتيلا: وكانت أول حوادث الاغتيال السياسى فى مصر السبب المباشر فى إنشاء جهاز فى وزارة الداخلية المصرية تحت قيادة الإنجليز وإشرافهم لتعقب الحركة الثورية، وكان هذا الجهاز القمعى يطلق عليه فى البداية اسم »مكتب الخدمة السرية« ثم حمل عدة أسماء أخرى فيما بعد »القلم المخصوص« والقسم السياسى »الغرفة ب« والإدارة الأوروبية انتساباً إلى رئيسها الذى كان إنجليزياً.
وبعد صدور حكم الإعدام على إبراهيم الوردانى، قاتل بطرس باشا غالى، بدأت سلطات الاحتلال مستندة إلى السراى والرجعية المتغلغلة فى الوزارة والجمعية التشريعية تبلور أفكارها لإنشاء جهاز لمقاومة المنظمات السرية وإنشاء جهاز للقمع مشروع وقانونى وسمى فى بداية إنشائه »مكتب الخدمة السرية« نسبة للسير الدون جوست، صاحب الفكرة ومهندسها، فلم يكن مهتماً فقط بحادث الاغتيال أو بالجمعيات السرية الوطنية بل كان مهتماً بالنشاط الوطنى بصفة عامة.
وكان المكتب يهتم بالجمعيات السياسية ذات النشاط الإرهابى والمعادى للإنجليز وللسراى والنظام الذى يحميه الإنجليز، وإرسال تقارير إلى دار المعتمد البريطانى والمندوب السامى ثم إلى لندن، ولم يقدم تقاريره أو نسخاً منها إلى الحكومة المصرية إلا بعد تصريح فبراير ١٩٢٣، وتؤكد الوثائق أن هذا المكتب أصبح يتبع السراى مباشرة.
وحسب ما ورد فى كتاب »البوليس المصرى« للدكتور عبدالوهاب بكر فإن عين الاحتلال فى مصر كانت هى مكتب الخدمة السرية، فكان يهتم فى أيام الحرب العالمية الأولى بتزويد جيش الاحتلال بما يحتاج من خدمات وجنود إلى جانب ضمان الأمن الداخلى، فكان المكتب وراء نفى آلاف الوطنيين إلى مالطة وغيرها، وهذا ما يؤكد وحدة جهاز المخابرات فى أيام الحرب حيث كان المكتب العربى (مكتب مخابرات عسكرية) ومركزه مصر، وكان يضم مكتب الخدمة السرية أو القلم المخصوص، وأجهزة المعلومات والتجسس الخاصة بالجيش البريطانى.
وفى نهاية ١٩١٩ انقسم الأمن فى مصر إلى »القسم المخصوص قلم ضبط أ« برئاسة المستر بنيت و»القسم السرى الخصوصى- قلم ضبط ب« تابع بوليس مدينة القاهرة وترأسه أول مصرى »اليوزباشى سليم زكى«، واختص فرع »ب« بالأمن السياسى وتعقب المجرمين السياسيين وأصبح اسمه »القلم المخصوص« الاسم السائد طوال فترة الثلاثينيات.
وفى ظل الشعور بالإحباط أمام موجة جرائم الاغتيال السياسى للأجانب صدر قرار فى مايو ١٩٢٢ بإنشاء »الإدارة الأوروبية« لتختص بالتعامل مع الجريمة السياسية فى مصر، فهو جهاز بريطانى بحت لا يدخله المصريون، وكان أسلوب الإدارة الجديدة فى ذروة الاغتيالات السياسية هو محاولة استغلال التدهور النفسى الذى أصاب المحكوم عليهم فى هذه الجريمة للوصول إلى أسرار الحوادث التى لم ينجح البوليس فى ضبط فاعلها، وكان »الهلباوى«، الذى شرع فى قتل السلطان حسين كامل عام ١٩١٥، فى حالة نفسية تسمح للإدارة الأوروبية بأن تجرى تجربتا الجديدة عليه،
وأصبح »الهلباوى« مهيأً لعملية غسيل مخ ويتحول بعدها من بطل قومى إلى عميل سياسى، وبسببه عرف الجهاز دروسا كثيرة لأول مرة فى تاريخ أجهزة الأمن السياسى منها استخدام التعقب بغير رجال البوليس المخبرين الذين أصبحوا معروفين للطلبة وأنشئت فرقة من أفراد بعيدين كل البعد عن الشك للقيام بأعمال التعقب بأساليب عجيبة، ونجحت الإدارة الأوروبية فى القضاء على أخطر وأنجح جماعة من جماعات العمل السياسى العنيف بفضل مديرها »الكسندروكين بويد« واقترن اسمه بكشف مقتل السردار وقضية ريا وسكينة وغيرهما.. هكذا اعتمدت الإدارة فى سياستها أساليب مبتكرة وربما لا يصدق الجيل الجديد أن الرجل الذى كتب »مرآة الإسلام« و»على هامش السيرة« و»الفتنة الكبرى« كان »زبوناً« ثابتاً فى تقارير البوليس السياسى المصرى،
لقد كانت تهمة طه حسين الحقيقية أنه انتمى للتقدم، وثار وهو محروم من نعمة البصر على ظلام العقل المفروض على شعبه، لكن تجار الظلام والمستفيدين من الجهل والبلاهة لم يعلنوا تهمته الحقيقية وإنما اختلقوا له كالعادة التهمة التى يسهل التدجيل بها على الناس، وكان الذين حرضوا على طه حسين هم الملك والإنجليز ولكنهم جعلوا الشعب هو الذى يتحرك ضده، ويتصدى لهدمه، بينما أسرع عملاء الملك يحتضنونه ويتيحون له التعبير عن رأيه وكان البوليس السياسى لديه تهم جاهزة وجرائم للتفصيل على »قد المقاس« إرضاء للسادية التى يتمتع بها عدد كبير من عناصره،
وبعد صراع طويل يقبله الملك وزيرا على مضض وفى حفلة حلف اليمين يقول له الملك أمام الوزراء جميعاً إنه يعطيه هذه الفرصة للاختبار، وإذا كان طه حسين قد اتهم بالإلحاد فان الأزهر كله كان موضوعاً خاصاً من موضوعات البوليس السياسى، وكان كل حاكم يحاول أن يضع الأزهر تحت سيطرة الجهاز، ولذا فقد كانت كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة جاهزة للاستعمال ضدهم ضد الأزهر وضد الأزهريين، وكان على رأس هذه الأسلحة البوليس السياسى، ودخل البوليس السياسى الأزهر وكتب عددا من التقارير وانحدرت إلى الملك السلطة على الأزهر، هو الذى يعين شيخه وكان البوليس السياسى ينقل أحاديث الشيخ إلى الملك على أنه يسير وفقاً للولاء المرسوم، وهكذا ظل الجهاز مسيطراً على مجرى الأمور فى كل مكان.