من طبيعة الإنسان أن يعبر عن رأيه ، ومن طبيعته كذلك أن يدافع عن هذا الرأي ويعززه بالحجج بحسب ما يراه صحيحا ، ولكن بشرط أن لا تمس كرامات الناس ولا معتقداتهم ، وإلا كان إسفافا لا رأيا وجب التصدي له ومنعه حتى لا تكون فتنة أو نهجا جديدا فيه بطر للحق وغمط للناس ، وإنه ما من أحد يكره هذا إلا كان مختفيا بجلد إنسان .
حرية الرأي والتعبير كفلها دستور البلاد لعلمه بأنها رمز للأمم المتحضرة لا تسمو ولا تزدهر إلا به ، ولأنه من المستحيل عقل يطابق عقل أو رأي يطابق رأي ، وعليه فإنه لا بد من اختلاف التوجهات والآراء ما بين صائب وغير صائب ، فالكل يرى الأمر من منظوره الخاص به والذي يعلمه ويتقنه ، إلا أن الله تعالى وزن هذه المعادلة بشيء يقال له الحكمة تجتمع عندها الآراء تصب وتسكب في قالب واحد لتجسد رأيا متكاملا ينزل عنده كل عاقل وينحو نحوه .
ولنا في طائر الإوز حكمة فإنها عندما تطير مع قطيع الإوز فإن سرعتها وتحليقها يزيدان بنسبة خمسة وسبعون بالمائة بعكس طيرانها بمفردها ، كذلك ونسبة تعرضها للمخاطر تقل بنسبة عالية جدا ، وعليه فإن الأصوات المتفرقة تصبح نشازا والمجتمعة كأنها لحن جميل ، وأن التقدم وبلوغ الهدف لا يحدث إلا بتضافر الجهود ،
لا ندعو أن نكون مدينة أفلاطون الفاضلة فهذا أمر لا يمكنه الحدوث لأي بلد لأنه ضرب من الخيال ، ولكن ندعو أن نكون يدا واحدة نمسك العصا من طرفها لتكون لنا سلاحا عند تقدمنا نزيل بها أوساخا قد تعترضنا كذلك ونحس بها وعورة الطريق فنتجنب السقوط .
ن الجنة من كلمة والنار من كلمة وتنشأ الحرب من كلمة و الحب يبدأ من كلمة ويأتي الكره من كلمة ، وإنه ليعجبنا سمت الإنسان وشخصه فإذا ما تكلم انجلى لنا بوضوح شخصه .
ما أجمل أن يكون الإنسان منمقا في كلامه ، لا يتكلف به مطلقا ، يتحدث على سجيته لا يقلد به أحدا حتى لا تلغى شخصيته ، تزينه أفكاره وتملحه كلماته ، يبنيها على حقائق مدعومة بشواهد ، بعيدا عن الغريب الوحشي من الكلام ومتجنبا الإسفاف ، بنبرة خفيفة وأعصاب هادئة ، ينظر إلى الجميع عندما يتحدث ولا يخص بنظره أحد ، ، واسع الصدر يتقبل النقد ، يحترم وجهة نظر الآخرين ويستمع لهم بإنصات .
عجيبة هذه الكلمة تحمل في طياتها الكثير من المعاني ، نملكها حينما لا ننطقها فإن نطقناها ملكتنا ، فما أكثر ما تكلمنا فنطلق بالكلمة على عواهنها بدراية أو من غير دراية ، سبتنا ثم استعبدتنا فليس لنا بالإمكان من استرجاعها ، فما نحن إلا من نتاج حصاد ألسنتنا تحمل مشاعرنا وأحاسيسنا .
" المؤمن كيّس فطن " فكيّس أن يكون ملكا على كلمته وكيّس أن ينطق بالحق وكيّس أن يردف أفعاله أقواله ، وفطن بأن لا ينجرف وراء كل كلمة طيبة ولا وراء كل ابتسامة براقة ، فإنه ليس كل لامع نفيس وليس كل نفيس لامع ، فمعدن الرصاص بنعومته ولمعانه سم زعاف ، والحجر الكريم بخشونته وانطفائه لا يسقط من يد .
استوقف الجبل ذات يوم النهر يناشده فقال : ناشدتك القرابة والرحم يا أخي النهر بأن تعلمني كيفية الجريان مثلك ، فإني والله قد ضجرت ومللت الثبات ، فعلمني بما علمك الله أن أسيح في الأرض وأتعرف عليها ، فإني على هذه الحال منذ أن نشأت أتجرع وحشة الصمت ، فعلم النهر ما بأخيه الجبل من أحزان وهموم ، فردّ يهوّن عليه قائلا : يا أخي الجبل فإن ما ضجرت وما مللت هو سر وجودك وسر عظمتك ولقد منحك الله بها القوة والهيبة ، وما أنا إلا نبع وبضع منك ، تدفعني فتكون لي حريرا أنساب عليك ، فكنت لي المنبع وكنت لك المنطق ، و إن صمتك خير لي و كلامي خير لك ، فكلامي بجرياني وصمتك بثباتك ، ولو أنك جريت لكأنك نطقت مثلي فتخرج نارا تحرق الأخضر واليابس ولتبَْعثرت وتشوّهت صورتك فصمتك خير ، ولو أني ثبتّ مثلك لأسِنْت ولنتِنتْ رائحتي ولصرت مصدرا للأمراض والأوبئة فيفر كل من حولي فكلامي خير، فأنا وأنت بما فضل الله بعضنا على بعض يكمل بعضنا الآخر ، يا أخي الجبل نحن مصداق قول الصادق المصدوق " من آمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" .