ابراهيم كمال Progress | 10%
النوع : الدولة : عدد المساهمات : 176 نقاط المكتسبه : 27616 التقييم : 5 المزاج : فل الأوسمة :
| موضوع: أقوال العلماء في المسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج الإثنين مايو 31, 2010 10:12 pm | |
| أقوال العلماء في المسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج
بعد استعراض أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم نعرض لأقوال من بعدهم في المسألة وهي خمسة أقوال: القول الأول:من أثبت الرؤية مطلقا
وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول ابن خزيمة، والآجري، والألوسي
1 - قول الإمام أحمد (241هـ) حكى أبو يعلى في كتابه الروايتين والوجهين اختلاف الروايات عن الإمام أحمد في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه على ثلاث روايات أحدها أنه رآه مطلقا [1]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: "رآه بفؤاده"" [2]
وقال ابن كثير: "وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما" [3]
2 - قول ابن خزيمة (311هـ) الإمام ابن خزيمة نصر في كتابه التوحيد القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وأطال في سرد الحجج على ذلك [4]
ولكن ابن كثير - رحمه الله - نسب إليه بأنه يقول بالرؤية البصرية كما سيأتي ذكر قوله
3 - قول الإمام الآجري (360 هـ) بوب الإمام الآجري في كتابه الشريعة باباً بعنوان "باب ذكر ما خصَّ الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤية لربه عز وجل"
ثم ساق مجموعة من الأحاديث والأثار التي تدل على أنه ينصر القول بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه -عز وجل- ليلة المعراج [5]
4 - قول الألوسي قال الألوسي في تفسيره: "وأنا أقول برؤيته صلى الله عليه وسلم ربَّه سبحانه وبدنوه على الوجه اللائق"
ونسبه إلى معظم الصوفية فقال: "ومعظم الصوفية على هذا، فيقولون بدنو الله - عز وجل - من النبي صلى الله عليه وسلم، ودنوه - سبحانه - على الوجه اللائق، وكذا يقولون بالرؤية كذلك" [6]
القول الثاني: من قيد الرؤية بالعين نسب القول بتقييد الرؤية بالعين إلى بعض العلماء، ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين، وفي نسبة ذلك إلى بعضهم نظر، وممن نسب لهم القول بذلك: ابن عباس، وأنس بن مالك، والحسن البصري، وعكرمة، ورواية عن الإمام أحمد،وابن خزيمة، وابن جرير، وأبو الحسن الأشعري وعامة أتباعه، وأبو عبد الله بن حامد وأبو بكر النجاد والقاضي أبو يعلى، وعبد القادر الجيلاني، وجماعة من المتأخرين
فقد نسب البغوي هذا القول إلى ابن عباس فقال في تفسيره: "وعن ابن عباس أنه قال رأى ربه بعينه" [7]
وقد سبق الرد على ذلك عند عرض أقوال الصحابة، وأن هذا التقييد بالعين لم يثبت عن ابن عباس
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين" [8]
وقال البغوي أيضًا:"وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة" [9]
وبالنسبة لما نسبه البغوي إلى أنس وعكرمة من تقييد الرؤية بالعين فإن الروايات السابق ذكرها عنهما جاءت مطلقة، وكذا ما أوردناه عن الحسن البصري فإن الرواية جاءت مطلقة، وقد سبق كذلك الإشارة إلى ما ورد في تفسير البغوي عن الحسن البصري أنه قال: "رآه بعينه" ولكن البغوي لم يسندها فلا يعدل عن الرواية التي سبق إيرادها عن الحسن من إطلاق الرؤية وعدم تقييدها بالعين، والله أعلم.
قال ابن كثير: "وقول البغوي في تفسيره: وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة، فيه نظر والله أعلم" [10]
وقال ابن كثير: "ورأى، أي: النبي صلى الله عليه وسلم ربه -عز وجل- ببصره على قول بعضهم، وهو اختيار الإمام أبي بكر بن خزيمة من أهل الحديث، وتبعه في ذلك جماعة من المتأخرين" [11]
وقال أيضًا: "وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين، واختاره ابن جرير، وبالغ فيه، وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين، وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه" [12]
وحمل القاضي أبو يعلى في كتابه الروايتين والوجهين [13]وفي إبطال التأويلات [14]الرواية التي عن الإمام أحمد بأنها نص على الرؤية بالعين، فقال في كتاب الروايتين: "فظاهر هذا أنه أثبت رؤيا عين" وقال في إبطال التأويلات: "والرواية الأولى أصح، وأنه رآه في تلك الليلة بعينيه"
وقد اعترض شيخ الإسلام على هذا التوجيه من القاضي فقال: "وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: "رآه بفؤاده"، ولم يقل أحد: أنه سمع أحمد يقول رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا عض كلامه المطلق، ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين
وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك: فقال: "نور أنى آراه"" [15]
وقال فيما نقله عنه تلميذه ابن القيم: "قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: وليس قول ابن عباس إنه رآه مناقضا لهذا ولا قوله رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال: "رأيت ربي تبارك وتعالى" [16]ولكن لم يكن هذا في الإسراء ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ثم أخبرهم عن رؤية ربه -تبارك وتعالى- تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وقال: نعم رآه حقا فإن رؤيا الأنبياء حق ولابد، ولكن لم يقل أحمد -رحمه الله تعالى- إنه رآه بعيني رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال: مرة رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك" [17]
وكذلك اعترض ابن القيم على توجيه القاضي أبي يعلى -أيضا- فقال: "وقد جعلها القاضي مختلفة، وجعل المسألة على ثلاث روايات، ثم احتج للرواية لأولى بحديث أم الطفيل، وحديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي ولا دلالة فيهما، لأنها رؤية منام فقط، واحتج لها بما لا يرضى أحمد أن يحتج به، وهو حديث لا يصح عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا: "لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى؟" [18]وذكر الحديث وهذا غلط قطعًا فإنما القصة كانت بالمدينة، كما قال معاذ بن جبل: "احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح حتى كدنا نترآى عين الشمس، ثم خرج وصلى بنا ثم قال: "رأيت ربي البارحة في أحسن صورة فقال: يا محمد: فيما يختصم الملأ الأعلى؟" [19] وذكر الحديث فهذا كان بالمدينة والإسراء بمكة وليس عن الإمام أحمد، ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم نص أنه رآه بعينه يقظة، وإنما حمل القاضي كلام أحمد ما لا يحتمله، واحتج لما فهم منه بما لا يدل عليه، وكلام أحمد يصدق بعضه بعضا، والمسألة رواية واحدة عنه فإنه لم يقل بعينه، وإنما قال: رآه. واتبع في ذلك قول ابن عباس: رأى محمد ربه. ولفظ الحديث "رأيت ربي" وهو مطلق وقد جاء بيانه في الحديث الآخر
ولكن في رد الإمام أحمد قول عائشة ومعارضته بقول النبي صلى الله عليه وسلم إشعار بأنه أثبت الرؤية التي أنكرتها عائشة، وهي لم تنكر رؤية المنام، ولم تقل من زعم أن محمدًا رأى ربه في المنام فقد أعظم على الله الفرية، وهذا يدل على أحد أمرين: إما أن يكون الإمام أحمد أنكر قول من أطلق نفي الرؤية؛ إذ هو مخالفة للحديث وإما أن يكون رواية عنه بإثبات الرؤية، وقد صرح بأنه رآه رؤيا حلم بقلبه، وهذا تقييد منه للرؤية، وأطلق عنه بأنه رآه، وأنكر قول من نفى مطلق الرؤية، واستحسن قول من قال رآه ولا يقول بعينه ولا بقلبه. وهذه النصوص عنه متفقة لا مختلفة وكيف يقول أحمد: "بعيني رأسه يقظة" ولم يجد ذلك في حديث قط، فأحمد إنما اتبع ألفاظ الحديث كما جاءت، وإنكاره قول من قال: لم يره أصلا لا يدل على إثبات رؤية اليقظة بعينه والله أعلم)) [20]
قول الأشعري (324هـ) وعامة أتباعه: ممن نسب هذا القول إلى أبي الحسن الأشعري وأكثر أتباعه القاضي عياض، و القرطبي في تفسيره، والنووي وابن كثير وابن حجر [21]
قال القاضي عياض: "وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري -رضي الله عنه- وجماعة من أصحابه: أنه رأى الله -تعالى- ببصره وعيني رأسه، وقال: كلُّ آية أوتيها نبيٌّ من الأنبياء -عليهم السلام- فقد أوتي مثلها نبيُّنا، وخُصَّ من بينهم بتفضيل الرُّؤية"
وهذا ما ذكره شارح جوهرة التوحيد -وهو من الأشاعرة- في شرحه فقال: "والراجح عند أكثر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه وتعالى بعيني رأسه وهما في محلهما، خلافا لمن قال: حولا إلى قلبه لحديث ابن عباس وغيره" [22]
قول أبي بكر النجاد أحمد بن سليمان (348 هـ) حكى القاضي أبو علي بن أبي موسى عن أبي بكر النجاد قال: "رآى محمد ربه إحدى عشرة مرة، منها بالسنة تسع مرات في ليلة المعراج، حين كان يتردد بين موسى وبين الله -عز وجل- يسأل أن يخفف عن أمته الصلاة فنقص خمسة وأربعين صلاة في تسع مقامات ومرتين بالكتاب" [23]
قول أبي عبد الله الحسن بن حامد (403 هـ) نقل أبو يعلى في كتابه الروايتين والوجهين أن اختيار شيخه أبي عبد الله ابن حامد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء بعينه [24]
وقال القاضي أبو يعلى -بعد أن أورد الرواية الأولى عن الإمام أحمد- بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج بعينه، وجعلها هي الصحيحة قال: "وهذه الرواية اختيار أبي بكر النجاد" [25]
قول القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء (458 هـ) رجح القول بالرؤية البصرية فقال -في معرض ذكره للروايات الواردة عن الإمام أحمد-: "والرواية الأولى أصح، وأنه رآه في تلك الليلة بعينه" [26]
وقال: "وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة؛ لأن قول ابن عباس يطابق قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته في تلك الليلة؛ ولأنه مثبت والمثبت مقدم على النافي، ولا يجوز أن يثبت ابن عباس ذلك إلا عن توقيف؛ إذ لا مجال للقياس في ذلك" [27].
قول عبد القادر الجيلاني (471 هـ) وهذا القول قال به أيضًا - عبد القادر - الجيلاني في كتابه الغنية، حيث قال: "ونؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه - عز وجل - ليلة الإسراء بعيني رأسه لا بفؤاده ولا في المنام" [28]
قول النووي (676 هـ) قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه على صحيح مسلم: "فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه ثم عائشة -رضي الله عنها- لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات" [29]
قول الحافظ مغلطاي (762 هـ) قال رحمه الله: "والصحيح أن الإسراء كان يقظة بجسده، وأنه مرات متعددة، وأنه رأى ربه - عز وجل - بعيني رأسه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم" [30]
قول السيوطي (911 هـ) قال السيوطي في الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج [31]: "الراجح عند أكثر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره، وإثبات هذا لا يكون إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تعتمد عائشة في نفي الرؤية على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات"
قول القسطلاني (923 هـ) قال رحمه الله: "... ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سموات ورأى ربه بعيني رأسه وأوحى إليه ما أوحى" [32]
قول محمد بن أحمد الصاوي (1241 هـ) قال في حاشيته على تفسير الجلالين: "...... واختلف في تلك الرؤية، فقيل: رآه بعينه حقيقة، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين منهم ابن عباس، وأنس ابن مالك، والحسن، وغيرهم،... وقيل: لم يره بعينه وهو قول عائشة رضي الله عنها، والصحيح الأول؛ لأن المثبت مقدم على النافي؛ أو لأن عائشة لم يبلغها حديث الرؤية لكونها كانت حديثة السن [33]" [34]
القول الثالث: من قيدها بالرؤية القلبية قول الإمام أحمد (241هـ) ذكر أبو يعلى في الروايتين والوجهين أن للإمام أحمد رواية أخرى أثبت فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه كما جاء ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس [35].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية "وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: "رآه بفؤاده"" [36]
قول القرطبي المفسر.(671 هـ) قال في تفسير قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}: "أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وذلك أن الله – تعالى - جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية" [37]
قول أبي المظفر السمعاني (489هـ) قال أبو المظفر السمعاني في تفسيره: "وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال رأى محمد ربه بفؤاده فإن قال قائل: المؤمنون يرونه بفؤادهم، وليس ذلك إلا العلم به فما معنى تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم ؟
والجواب أنهم قالوا: إن الله – تعالى - خلق رؤية لفؤاده فرأى بفؤاده مثل ما يرى الإنسان بعينه" [38]
قول شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) قال - رحمه الله - في مجموع الفتاوى: "وأما الرؤية، فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" وعائشة أنكرت الرؤية. فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد.والألفاظ الثابثة عن ابن عباس هي مطلقة، أو مقيدة بالفؤاد، تارة يقول: "رأى محمد ربه"، وتارة يقول: "رآه محمد"، ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح أنه رآه بعينه...وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى آراه"" [39]
وقد قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء 1]، ولو كان قد أراه نفسه بعينه لكان ذكر ذلك أولى
وكذلك قوله {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم 12]، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم 18]، ولو كان رآه بعينه لكان ذكر ذلك أولى
وفي الصحيحين عن ابن عباس: في قوله {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء 60]، قال: "هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به" [40]، وهذه رؤيا الآيات لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدقه قوم وكذبه قوم، ولم يخبرهم أنه رأى ربه بعينه، وليس في شئ من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه" [41]
قال ابن القيم رحمه الله: "قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-:
وليس قول ابن عباس: إنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله رآه بفؤاده، وقد صح عنه أنه قال: "رأيت ربي تبارك وتعالى" ولكن لم يكن هذا في الإسراء ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه - تبارك وتعالى - تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وقال: نعم رآه حقا، فإن رؤيا الأنبياء حق ولابد، ولكن لم يقل أحمد - رحمه الله تعالى -: إنه رآه بعيني رأسه يقظة. ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال: مرة رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه. وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك
وأما قول ابن عباس: أنه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله - تعالى - {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ثم قال {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} والظاهر أنه مستنده فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين في صورته التي خلق عليها، وقول ابن عباس هو مستند الإمام أحمد في قوله رآه بفؤاده والله أعلم" [42]
قول ابن كثير (704 هـ) قال ابن كثير بعد ذكر الروايات عن ابن عباس أنه رآه بفؤاده مرتين: ".... وقد خالفه ابن مسعود، وفي رواية عنه أنه أطلق الرؤية، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شئ عن الصحابة -رضي الله عنهم- وقول البغوي في تفسيره: وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس والحسن وعكرمة، فيه نظر والله أعلم" [43]
وقال رحمه الله في البداية والنهاية: "واختلفوا في الرؤية فقال بعضهم: رآه بفؤاده مرتين، قاله ابن عباس وطائفة، وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد. وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل - رضي الله عنهما -. وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين، واختاره ابن جرير وبالغ فيه، وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين. وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه. وقالت طائفة: لم يقع ذلك لحديث أبي ذر... وقالوا: لم يمكن رؤية الباقي بالعين الفانية... والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف والله أعلم" [44]
وقال - رحمه الله - في الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: "ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه - عز وجل - ببصره على قول بعضهم، وهو اختيار الإمام أبي بكر بن خزيمة من أهل الحديث، وتبعه على ذلك جماعة من المتأخرين. وروى مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه رآه بفؤاده مرتين، وأنكرت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - رؤية البصر، وروى مسلم عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله رأيت ربك فقال: "نور أنى أراه" وإلى هذا مال جماعة من الأئمة قديما وحديثا اعتمادًا على هذا الحديث، واتباعًا لقول عائشة -رضي الله عنها - قالوا: هذا مشهور عنها، ولم يعرف لها مخالف من الصحابة إلا ما روي عن ابن عباس أنه رآه بفؤاده، ونحن نقول به، وما روي في ذلك من إثبات الرؤية بالبصر فلا يصح شيء من ذلك لا مرفوعا بل ولا موقوفا والله أعلم" [45]
قول ابن أبي العز (792 هـ) قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: "واتفقت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صلى الله عليه وسلم" [46]
وقال في موضع آخر: "... وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربَّه - عز وجل - بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه. وقوله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 11]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم 13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين على صورته التي خلق عليها" [47]
قول ابن حجر (852 هـ) قال رحمه الله: "جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة، وأخرى مقيدة فيجب حمل مطلقها على مقيدها... وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه، كما يخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا، ولو جرت العادة خلقها في العين" [48]
قول السفاريني (1118هـ) قال -رحمه الله- في لوامع الأنوار: "... وإذاعلم ما حررناه فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة - رضي الله عنهم - بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب كما قاله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري" [49]
قول محمد الأمين الشنقيطي (1393 هـ) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - ممن يرجح الرؤية القلبية فقد قال رحمه الله: "التحقيق الذي دلت عليه نصوص الشرع أنه صلى الله عليه وسلم لم يره بعين رأسه، وما جاء عن بعض السلف من أنه رآه، فالمراد به الرؤية بالقلب، كما في صحيح مسلم أنه رآه بفؤاده مرتين، لا بعين الرأس" [50]
القول الرابع: من قال رآه مرة بفؤاده ومرة بعينه
وبه قال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني، وأنور شاه الكشميري
1 - قول أبي القاسم الأضبهاني (535 هـ) قال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة: "ومن مذهب أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وكان رؤيا يقظة لا رؤيا منام.
وروي عن أحمد بن حنبل - رحمه الله - قال: رآه بعين رأسه، وروي عنه أنه رآه بعين قلبه، والصحيح أنه رآه بعين رأسه، وعين قلبه
قيل في التفسير {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} رآه في المرة الأولى بعيني قلبه، وفي المرة الأخرى بعيني رأسه" [51]
2 - قول أنور شاه الكشميري قال أنور شاه الكشميري - فيما نقله عنه صاحب فتح الملهم -: "إن الراجح في آية النجم أن الرؤية في قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} أن الرؤية هنا للفؤاد، والرؤية في قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} أن الرؤية هنا بالعين
وقال: وعن ابن عباس أنه كان يقول أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده [52]، رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، خلا جهور بن منصور الكوفي وجهور بن منصور ذكره ابن حبان في الثقات كذا في الزوائد" [53]
القول الخامس: من نفى الرؤية مطلقا وقال بهذا القول: الدارمي، وابن عطية، وأبو حيان
قول الإمام الدارمي (280 هـ) قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - في رده على بشر الريسي -:"ويلك، إن تأويل هذا الحديث [54] على غير ما ذهبت إليه لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر: إنه لم ير ربه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تروا ربكم حتى تموتوا" وقالت عائشة رضي الله عنها: "من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية" وأجمع المسلمون على ذلك مع قول الله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يعنون أبصار أهل الدنيا، وإنما هذه الرؤية كانت في المنام، وفي المنام يمكن رؤية الله على كل حال، وفي كل صورة" [55]
قول ابن عطية (546 هـ) ذهب ابن عطية في تفسيره إلى ترجيح مذهب عائشة - رضي الله عنها - ومن معها في أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربَّه، ونسبه إلى الجمهور [56]
قول أبي حيان الأندلسي (756 هـ) كما ذهب أبو حيان إلى ترجيح مذهب عائشة ومن معها [57].
القول السادس: من توقف في المسألة
قول القاضي عياض (544 هـ) قال القاضي عياض: "ووقف بعض مشايخنا في هذا، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز أن يكون
قال القاضي أبو الفضل: الحق الذي لاامتراء فيه أن رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلاً، وليس في العقل ما يحيلها" [58]
وقال أيضا: "وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه، فليس فيه قاطع أيضا، ولا نص، إذ المعول فيه على آية النجم والتنازع فيهما مأثور والاحتمال لهما ممكن ولا أثر قاطع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
وحديث ابن عباس خبر عن اعتقاده لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجب العلم باعتقاد مضمنه
ومثله حديث أبي ذر في تفسير الآية، وحديث معاذ محتمل للتأويل، وهو مضطرب الإسناد والمتن
وحديث أبي ذر الآخر محتمل مشكل فروي: "نور أنى أراه" وحكى بعض شيوخنا أنه روي: "نَورَاني أراه"
وفي حديثه الآخر: سألته فقال: "رأيت نورا" وليس ممكن الاحتجاج بواحد منها على صحة الرؤية فإن كان الصحيح رأيت نورا فهو قد أخبر أنه لم ير الله، وإنما رأى نورا منعه وحجبه عن رؤية الله
وإلى هذا يرجع قوله: "نور أنى أراه" أي كيف أراه مع حجاب النور المغشي للبصر، وهذا مثل ما في الحديث الآخر: "حجابه النور" وفي الحديث الآخر: "لم أره بعيني ولكن رأيته بقلبي مرتين" وتلا {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} والله قادر على خلق الإدراك الذي في البصر في القلب، أو كيف شاء لا إله غيره
فإن ورد حديث نص بين في الباب وجب المصير إليه، إذ لا استحالة فيه، ولا مانع قطعي يرده والله الموفق" [59]
قول أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي (656هـ) قال رحمه الله: "وذهبت طائفة من المشايخ إلى الوقف، وقالوا: ليس عليه قاطع نفيًا ولا إثباتًا، ولكنه جائز عقلاً وهذا هو الصحيح"
وقال في موضع آخر: "... ثم هل وقعت رؤية الله -تعالى- لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أو لم تقع؟ ليس في ذلك دليل قاطع، وغاية ما للمستدل على نفي ذلك أو إثباته التمسك بظواهر متعارضة معرّضة للتأويل، والمسألة ليست من باب العمليات فيكتفى فيها بالظنون، وإنما هي من باب المعتقدات ولا مدخل للظنون فيها" [60]
قول الذهبي (748 هـ) قال رحمه الله: "والذي دلَّ عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها، فنقف عن هذه المسألة، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإثبات ذلك أو نفيه صعب، والوقوف سبيل السلامة والله أعلم، ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول الله ورسوله أعلم، بل نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة؛ إذ رؤية الله في الآخرة ثبتت بنصوص متوافرة.. " [61]
ولكن ورد في كتابه العرش ما يناقض ذلك حيث صرح بإثبات الرؤية فقال: "وأكثر الصحابة على أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه....قلت: لأنه رآه في عالم البقاء حين خرج من عالم الفناء، وارتقى فوق السموات السبع فهذا الحديث أيضًا دال على أنه - سبحانه وتعالى - فوق السموات وفوق جميع المخلوقات، ولولا ذلك لكان معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى فوق السماء السابعة إلى السدرة المنتهى، ودنو الجبار منه، وتدليه - سبحانه وتعالى - بلا كيف حتى كان من النبي صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، وأنه رآه تلك الليلة، وأن جبريل علا به حتى أتى به إلى الله تعالى" [62]
المطلب الرابع: وقفات في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج
بعد استعرض الأقوال الواردة في المسألة يمكن استخلاص الوقفات التالية: الوقفة الأولى: بالنظر إلى الآيات القرآنية التي استدل بها كل فريق فإنها لا تدل دلالة صريحة على إثبات الرؤية ولاعلى نفيها
فنفاة الرؤية استدلوا بقوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} وقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فعائشة - رضي الله عنها - استدلت بهاتين الآيتين فقالت: "من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، والله يقول {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} والله يقول {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}". وقد أجاب ابن عباس على الاستدلال بقوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} لما سئل عنها بقوله: "ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره"
قال ابن خزيمة: "لم تحك عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خبرها أنه لم ير ربه عز وجل، وإنما تلت قوله عز وجل {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وقوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً….} تدبر الآيتين ووفق لإدراك الصواب علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق من قال: أن محمدًا رأى ربه الرمي بالفرية على الله كيف بأن يقول "قد أعظم الفرية على الله؟""
لأن قوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} قد يحتمل معنين على مذهب من يثبت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خالقه عز وجل، قد يحتمل بأن يكون معنى قوله {لا تُدْرِكُهُ لأَبْصَارُ} على ما قال ترجمان القرآن لمولاه عكرمة: ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء
والمعنى الثاني، أي: لا تدركه الأبصار أبصار الناس لأن الأعم والأظهر من لغة العرب أن الأبصار إنما يقع على أبصار جماعة، لا أحسب عربيا يجيء من طريق اللغة يقول لبصر امرئ واحد أبصار، وإنما يقال لبصر امرئ واحد بصر، ولا سمعنا عربيا يقول لعين امرئ واحد بصرين فكيف أبصار
ولو قلنا: إن الأبصار ترى ربنا في الدنيا لكنا قد قلنا الباطل والبهتان، فأما من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه دون سائر الخلق فلم يقل: إن الأبصار قد رأت ربها في الدنيا فكيف يكون يا ذوي الحجى من يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه دون سائر الخلق مثبتا أن الأبصار قد رأت ربها فتفهموا يا ذوي الحجى هذه النكتة تعلموا أن ابن عباس -رضي الله عنهما- وأبو ذر وأنس بن مالك ومن وافقهم لم يعظموا الفرية على الله، ولا خالفوا حرفا من كتاب الله في هذه المسألة
فأما ذكرها {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ …..} فلم يقل أبو ذر وابن عباس - رضي الله عنهما - وأنس بن مالك ولا واحد منهم ولا أحد ممن يثبت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خالقه عز وجل أن الله كلمه في ذلك الوقت الذي كان يرى ربه فيه، فيلزم أن يقال: قد خالفتم هذه الآية. ومن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه لم يخالف قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ ….} وإنما يكون مخالفا لهذه الآية من يقول رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه فكلمه الله في ذلك الوقت" [63]
وأما الآيات التي استدل بها على إثبات الرؤية فهي: قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم 11-14]
وقوله تعالى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم 18]
فهذه الآيات كما ذكر أهل العلم لاتدل دلالة صريحة على إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه وإليك أقوالهم: قال الإمام ابن خزيمة عن الاستدلال بقوله تعالى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}: "وليس هذا التأويل الذي تأولوه لهذه الآية بالبيِّن، وفيه نظر؛ لأن الله إنما أخبر في هذه الآية أنه رأى من أيات ربه الكبرى.ولم يُعلم الله في هذه الآية أنه رأى ربه - جل وعلا - وآيات ربنا ليس هو ربنا - جل وعلا - فتفهموا لا تغالطوا في تأويل هذه الآية" [64]
قال القاضي عياض: "وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول: إنه رآه بعينه، فليس فيه قاطع أيضًا ولا نص، إذ المعول على آية النجم والتنازع فيهما مأثور والاحتمال لهما ممكن" [65]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك" [66]
وقال أيضًا: "وقد قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء 1]، ولو كان قد أراه نفسه بعينه لكان ذكر ذلك أولى.
وكذلك قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم 12]، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم 18]، ولو كان رآه بعينه لكان ذكر ذلك أولى
وفي الصحيحين عن ابن عباس في قوله {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء 60]، قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وهذه رؤيا الآيات لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدقه قوم وكذبه قوم، ولم يخبرهم أنه رأى ربه بعينه، وليس في شئ من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه" [67]
وقال ابن القيم "وأما قول ابن عباس أنه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان استناده إلى قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ثم قال {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين في صورته التي خلق عليها [68]" [69]
وقال أيضًا: "والمقصود أن المخبر عنه بالرؤية في سورة النجم هو جبريل، وأما قول ابن عباس: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" فالظاهر أن مستنده هذه الآية، وقد تبين أن المرئي فيها جبريل فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس" [70]
وقال شارح الطحاوية: "وقوله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 11]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم 13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين على صورته التي خلق عليها" [71]
وقال ابن كثير: "وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو جبريل - عليه السلام - هو قول أم المؤمنين عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة، كما سنورد أحاديثهم قريبًا إن شاء الله
وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"، فجعل هذه إحداهما. وجاء في حديث شريك بن أبي نمر عن أنس في حديث الإسراء "ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى" [72]، ولهذا تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية، وذكروا أشياء فيها من الغرابة، فإن صح فهو محمول على وقت آخر، وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}، فهذه هي ليلة الإسراء، والأولى كانت في الأرض" [73]
الوقفة الثانية: وبالنسبة للسنة ليس هناك دليل صريح قاطع -أيضًا- لأحد الفريقين.
قال ابن خزيمة: "لم تحك عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها أنه لم ير ربه عز وجل" [74]
قال القاضي عياض: "ولا أثر قاطع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" [75]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولم ترو عائشة - رضي الله عنها - في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولا سألته عن ذلك. ولا نُقل في ذلك عن الصديق - رضي الله عنه -، كما يروونه ناس من الجهال: "أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نعم، وقال لعائشة: لا" فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء" [76]
قال النووي: "ثم عائشة - رضي الله عنها - لم تنف الرؤية بحديث عن رسول صلى الله عليه وسلم ولو كان معها حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات" [77]
وقال السيوطي: "ولم تعتمد عائشة في نفي الرؤية على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات" [78]
ومع كون الأدلة من السنة لا تنص على نفي الرؤية مطلقًا إلا أنها تنفي الرؤية البصرية
قال ابن أبي العز: "لكن لم يرد نص بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه بعين رأسه، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية، وهو ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه" وفي رواية "رأيت نوراً"، وقد روى مسلم – أيضًا - عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - وفي رواية - النار، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" [79]، فيكون - والله أعلم - معنى قوله لأبي ذر: "رأيت نوراً" أنه رأى الحجاب، أي: فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته، فهذا صريح في نفي الرؤية والله أعلم
وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك" [80]
الوقفة الثالثة: إن قول ابن عباس لا يمكن أن يقال من قبيل الاجتهاد
قال ابن خزيمة: "..فقد ثبت عن ابن عباس إثباته أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه وبيقين يعلم كل عالم أن هذا من الجنس الذي لا يدرك بالعقول والأراء والجنان والظنون، ولا يدرك مثل هذا العلم إلا من طريق النبوة إما بكتاب أو بقول نبي مصطفى، ولا أظن أحدا من أهل العلم يتوهم أن ابن عباس قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه برأي وظن، لا ولا أبو ذر، لا ولا أنس بن مالك، نقول كما قال معمر بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه المسألة: "ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس"
نقول عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة كذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم له أن يرزق الحكمة والعلم وهذا المعنى من الدعاء وهو المسمى بترجمان القرآن، ومن كان الفاروق - رضي الله عنه - يسأله عن بعض معاني القرآن فيقبل منه" [81]
قال القاضي أبو يعلى: "وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة.... ولا يجوز أن يثبت ابن عباس ذلك إلا عن توقيف؛ إذ لا مجال للقي | |
|