وقوله: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ...}
هذا من قول اليهود لبعضهم؛
أى لا تُحدّثوا المسلمين بأنكم تجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة وأنتم
لا تؤمنون به، فتكونَ لهم الحجة عليكم. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} قال الله: {أَوَلاَ
يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} هذا جوابهم
من قول الله.
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ
أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }
وقوله: {لاَ يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ...}
فالأمانىّ على وجهين فى المعنى،
ووجهين فى العربية؛ فأما فى العربية فإنّ من العرب من يخفّف الياء فيقول: "إِلاَّ
أَمَانِىَ وَإِنْ هُمْ" ومنهم من يشدِّد، وهو أجودُ الوجهين. وكذلك ما كان مثل
أمنيّة، ومثل أضحيّة، وأغنيّة، ففى جمعه وجهان: التخفيف والتشديد. وإنما تشدّد لأنك
تريد الأفاعيل، فتكون مشدّدة لاجتماع الياء من جمع الفعل والياء الأصلية. وأن خفّفت
حذفتَ ياء الجمع فخففت الياء الأصلية، وهو كما يقال: القَراقير والقَراقر, (فمن قال
الأمانِىَ بالتخفيف) فهو الذى يقول القراقِر، ومن شدّد الأمانى فهو الذى يقول
القراقير. والأمنِيّة فى المعنى التلاوة، كقول الله عزّ وجلّ: {إِلاَّ إِذَا
تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فى أُمْنِيَّتِهِ} أى فى تلاوته، والأمانىّ أيضا أن
يفتعل الرجل الأحاديث المفتعلة؛ قال بعض العرب لابن دَأْب وهو يحدّث الناس: أهذا شئ
رويتَه أم شئ تَمنَّيته؟ يريد افتعلته، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم ليست من
كتاب الله. وهذا أبين الوجهين.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
وقوله: {إِلاَّ أَيَّاماً
مَّعْدُودَةً...}
يقال: كيف جاز فى الكلام: لآتينك
أياما معدودة، ولم يبين عددها؟ وذلك أنهم نَوَوا الأيام التى عبدوا فيها العجل،
فقالوا: لن نُعذَّب فى النار إلا تلك الأربعين الليلة التى عبدنا فيها العجل. فلما
كان معناها مؤقّتا معلوما عندهم وصفوه بمعدودة ومعدودات، فقال الله: قل يا محمد: هل
عندكم من الله عهدٌ بهذا الذى قلتم {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونََ}.
{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ
خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقوله:
{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً...}
وُضِعت {بَلَى} لكل إقرار
فى أوّله حَجْد، ووُضِعت "نَعَم" للاستفهام الذى لا حَجْدَ فيه، فـ"بلى" بمنزلة
"نَعَمْ" إلا أنها لا تكون إلاّ لمَا فى أوّله حَجْد؛ قال الله تبارك وتعالى:
{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حقاً قَالُوا نَعَمْ} فـ"بلى" لا تصلح فى
هذا الموضع. وأما الحجد فقوله: {أَلَمْ يَِِِأتِِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ
جَاءَنَا نَذِيرٌ} ولا تصلح ها هنا "نَعَمْ" أداة؛ وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى
جواب بـ "نَعَمْ" و"لا" ما لم يكن فيه حَجْدٌ، فإذا دخل الحجدُ فى الاستفهام لم
يستقم أن تقول فيه "نَعَمْ" فتكونُ كأنك مقرٌّ بالحجد وبالفعل الذى بعدَه؛ ألا ترى
أنّك لو قلتَ لقائل قال لك: أما لك مالٌ؟ فلو قلتَ "نعم" كنتَ مقرّاً بالكلمة
بطَرْح الاستفهام وحدَه، كأنك قلت "نعم" مالى مالٌ، فأرادوا أن يرجعوا عن الحجد
ويُقرّوا بما بعده فاختاروا "بَلَى" لأنّ أصلها كان رجوعا مَحْضاً عن الحجد إذا
قالوا: ما قال عبدالله بل زيدٌ، فكانت "بَلْ" كلمة عَطْف ورُجوع لا يصلح الوقوف
عليها، فزادوا فيها ألفا يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعا عن الحجد فقط، وإقرارا
بالفعل الذى بعد الحجد، فقالوا: "بلى"، فدلّت على معنى الإقرار والإنعام، ودل لفظ
"بل" على الرجوع عن الحجد فقط.
{ وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
}
وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ
تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ...}
رُفِعت {تَعْبُدُونَ} لأنّ
دخول "أَنْ" يصلح فيها، فلمّا حُذف الناصب رُفِعت، كما قال الله: {أَفَغَيْرَ
اللّهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ} (قرأ الآية) وكما قال: {وَلاَ تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ} وفى قراءة عبدالله "وَلاَتَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِر" فهذا وجهٌ من
الرفع، فلما لم تأت بالناصب رفعتَ. وفى قراءة أُبىٍّ: "وإِذْ أَخَذْنَا مِيثاَقَ
بَنِى إِسْرائيلَ لاَ تَعْبُدُوا"، ومعناها الجزم بالنهى، وليست بجواب لليمين. ألا
ترى أنه قد قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيِثَاقَكُم ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ} فأُمِروا، والأمر لا يكون جوابا لليمين؛ لا يكون
فى الكلام أن تقول: واللّهِ قُمْ، ولا أن تقول: والله لا تَقُمْ. ويدلّ على أنه
نهىٌ وجزمٌ أنه قال: {وَقُولُوا لِلنّاَسِ حُسْناً} كما تقول: أفعلوا ولا تفعلوا،
أو لا تفعلوا وافعلوا. وإن شئت جعلت {لاَتَعْبُدُونَ} جوابا لليمين؛ لأنّ أخذ
الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد. وإنّما جاز أن تقول لا
يعبدون ولا تعبدون وهم غُيَّبٌ كما قال: {قُلْ لِلّذينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ} و
"سَتُغْلَبُونَ" بالياء والتاء؛ "سَيُغْلَبُونَ" بالياء على لفظ الغيب، والتّاء على
المعنى؛ لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين. وكذلك قولك: استحلفتُ عبدَالله
ليقومنّ؛ لغيبته، واستحلفتُه لتقومنّ (لأنى) قد كنتُ خاطبته. ويجوز فى هذا استحلفتُ
عبدالله لأقومَنّ؛ أى قلتُ له احلِفْ لأقومنّ، كقولك: قُلْ لأقومَنّ. فإذا قلتَ:
استحلفتُ فأوقعتَ فعلك على مستحلَفٍ جاز فعلُه أن يكون بالياء والتاء والألف, وإذا
كان هو حالفا وليس معه مستحلَف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء؛ من ذلك حَلَف
عبدُالله ليقومنّ فلم يَقُمْ، وحَلَف عبدالله لأقومَنّ؛ لأنهّ كقولك قال لأقومَنّ،
ولم يجز بالتّاء؛ لأنه لا يكون مخاطِبا لنفسه؛ لأنّ التاء لا تكون إلاّ لرجل
تُخاطبه، فلما
لم يكن مستحلَفٌ سقَط
الخطاب. وقوله: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللّهِ لَنُبَيِّنَنَّهُ وأَهْلَهُ} فيها
ثلاثةُ أوجهٍ: "لَتُبَيِّتُنَّهُ" و"لَيُبَيِّتُنَّهُ" و "لَنُبَيِّتَنَّهُ" بالتاء
والياء والنون. إذا جعلت "تَقَاسَمُوا" على وجه فَعَلوا، فإذا جعلتَها فى موضع
جَزْمٍ قلتَ: تقاسموا لتبيتنُه ولنبيتنَه، ولم يجز بالياء، ألاتَرى أنكّ تقولُ
للرجل: احلِفْ لتقومَنّ، أو احلف لأقومنّ، كما تقول: قل لأقومنّ. ولا يجوز أن تقول
للرَّجل احلِف ليقومنّ، فيصير كأنّه لآخر، فهذا ما فى اليَمين.
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ
مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
وقوله:
{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ...}
إن شئت جعلت {هُوَ} كناية
عن الإخراج {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ} أى وهو محرّم
عليكم؛ يريد: إخراجهم محرّم عليكم، ثم أعاد الإخراج مرة أخرى تكريرا على "هو" لمّا
حالَ (بين الإخراج وبين "هو" كلامٌ)، فكان رفع الإخراج بالتكرير على "هو" وإن شئت
جعلت "هو" عمادا ورفعت الإخراج بمجرم؛ كما قال الله جل وعزّ: {وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أنْ يُعَمَّرَ} فالمعنى - والله أعلم - ليس بمزحزحه
من العذاب التّعمِير؛ فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد فى الظَّنّ لأنّه ناصب،
وفى "كان" و "ليس" لأنهما يرفعان، وفى "إنّ" وأخواتها لأنهن ينصِبْن، ولا ينبغى
للواو وهى لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ، قلت: لم يوضع العماد على
أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع فى كل موضع يبتدأ فيه بالاسم قبل الفعل،
فإذا رأيت الواو فى موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح فى ذلك العمادُ؛ كقولك: أتيت
زيدا وأبوه قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أبوه، وأتيت زيدا ويقوم أبوه؛
لأنّ الواو تطلب الأبَ، فلما بدأتَ بالفعل وإنما تطلب الواوُ الاسمَ أدخلوا لها
"هو" لأنّه اسمٌ . قال الفرّاء: سمعت بعض العرب يقول: كان مرّة وهو ينفع النّاسَ
أحسابُهم. وأنشدنى بعض العرب:
فأَبلِغْ أبا يَحيى إذا ما لَقِيتَهُ * على
العِيسِ فى آباطِها عَرَقٌ يَبْسُ
بِأنّ السُّلاَمِىَّ الذى بِضَريَّةٍ *
أَمِيرَ الحِمَى قَدْ باعَ حَقّى بَنِى عَبْسِ
بِثَوْبٍ ودِينارٍ وشاةٍ ودِرهمٍ
* فهَلْ هو مَرْفوعٌ بما هْا هنا رَأْسُ
فجعل مع "هَلْ" العمادَ وهى لا ترفع ولا
تنصب؛ لأن هل تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا؛ قال: وكذلك "ما" و"أمّا", تقول:
ماهو بذاهب أحدٌ، وأمّا هو فذاهبٌ زيد، لقبح أمّا ذاهب فزيد.
{ وَقَالُواْ
قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا
يُؤْمِنُونَ }
وقوله: {فَقَلِيلاً مَّا
يُؤْمِنُونَ...}
يقول القائل: هل كان لهم قليلٌ من الإيمان أو كثيرٌ؟ ففيه وجهان
من العربية: أحدهما - ألاّ يكونوا آمنوا قليلا ولا كثيرا. ومثله مما تقوله العرب
بالقِلّة على أن ينفوا الفعل كلّه قولهم: قَلَّ ما رأيتُ مثلَ هذا قَطّ. وحكى
الكسائى عن العرب: مررتُ بِبلادٍ قَلَّ ما تُنبت إلاّ البصلَ والكرّاث. أى ما تنبت
إلاّهذين. وكذلك قول العرب: ما أكاد أَبرحُ منزلى؛ وليس يَبرحُه وقد يكون أَنْ
يبرحه قليلا. والوجه الآخر - أن يكونوا يصدقون بالشىء قليلا ويكفرون بما سواه:
بالنبى صلى الله عليه وسلم فيكونون كافرين؛ وذلك أنه يقال: مَن خلقكم؟ وَمن رزقكم؟
فيقولون الله تبارك وتعالى. ويكفرون بما سواه: بالنبى صلى الله عليه وسلم وبآيات
الله، فذلك قوله: {قَلِيلاً مَا يُؤْمنُونَ}. وكذلك قال المفسرون فى قول الله:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} على هذا
التفسير.
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ
لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ
فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ }
وقوله: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ
مُصَدِّقٌ...}
[إن شئت] رفعتَ المصدِّق
ونويتَ أن يكون نعتاً للكتاب لأنّه نكرةٌ، ولو نصبته على أن تجعل المصدِّق فِعْلا
للكتاب لكان صوابا. وفى قراءة عبدالله فى آل عمران: "ثُمَّ جاءكم رَسُولٌ
مُصَدِّقاً" فجعله فِعلا. وإذا كانت النكرة قد وُصِلت بشىءٍ سوى نعتها ثم جاء
النّعت، فالنّصْب على الفعل أمكنُ منه إذا كانت نكرة غير موصولةٍ، وذلك لأنّ صلة
النكرة تَصيرُ كالموقِّتة لها، ألا تَرى أنك إذا قلتَ: مررتُ برجل فى دارك، أو
بعبدٍ لك فى دارك، فكأنّك قلت: بعبدك أو بسايس دابّتك، فقس على هذا؛ وقد قال بعض
الشعراء:
لو كان حَىٌّ ناجياً لَنجَا * مِنْ يومِهِ المُزَلَّمُ
الأَعْصَمْ
فنصب ولم يصل النّكرةَ بشىء وهو جائزٌ. فأما قوله: {وَهَذا كِتابٌ
مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً} فإنّ نصب الِّلسان على وجهين؛ أحدُهما أن تُضْمر
شيئا يقعُ عليه المصدّقُ، كأنك قلت: وهذا يصدّق التوراةَ والإنجيلَ {لِساناً
عربيّاً} (لأنّ التوراة والإنجيل لم يكونا عربيّين) فصار اللسان العربىّ مفسِّرا.
وأما الوجْهُ الآخرُ فعلى ما فسّرت لك لما وصلت الكتاب بالمصدِّق أخرجتَ "لساناً"
ممّا فى "مُصَدّق" مِن الرّاجع مِن ذكره. ولو كان الّلسان مرفوعا لكان صواباً؛ على
أنه نعتٌ وإن طال.
وقوله: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ
بِهِ...}
وقبلها " وَلَمَّا". وليس
للأولى جوابٌ، فإن الأولى صار جوابها كأنه فى الفاء التى فى الثانية، وصارت
{كَفَرُواْ بِهِ} كافية من جوابهما جميعا. ومثله فى الكلام: ما هو إلاّ أنْ أتانى
عبدالله فلما قَعدَ أوسعتُ له وأكرمتُه. ومثله قوله: {فإمّا يَأتيَنَّكُمْ مِنِّى
هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَاىْ} فى البقرة {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ} فى "طه" اكتفى
بجوابٍ واحد لهما جميعا {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فى البقرة {فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ
يَشْقَى} فى "طه". وصارت الفاء فى قوله {فَمَنْ تَبِعَ} كأنها جواب لـ"إمّا"، ألاَ
تَرى أنّ الواو لا تصلحُ فى موضع الفاء، فذلك دليلٌ على أن الفاء جواب وليست
بنَسَقٍ.
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ
أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ
عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ مُّهِينٌ }
وقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ
أَنْفُسَهُمْ...}
معناه - والله أعلم - باعوا به أنفسَهم. وللعرب فى شَرَوْا
واشْتَروا مذهبان، فالأكثرُ منهما أن يكون شَرَوْا: باعوا، واشتروا: ابتاعو, وربمّا
جعلوهما جميعا فى معنى باعوا، وكذلك البيع؛ يقال: بعت الثوب. على معنى أخرجتُه من
يدى، وبعته: اشتريتُه، وهذه اللُّغة فى تميم وربيعة. سمعت أبا ثَرْوانَ يقول لرجل:
بِعْ لى تمرا بدرهم. يريد اشتر لى؛ وأنشدنى بعض ربيعة:
ويأْتِيكَ بالأَخْبارِ
مَنْ لَم تَبِعْ لَهُ * بَتَاتاً ولم تَضْرِبْ له وقْتَ
مَوْعِدِ
على معنى لم تشتر له
بتاتا؛ قال الفرّاء: والبتاتُ الزاد. وقوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ
أَنْفُسَهُمْ} "أَنْ يَكْفُروا" فى موضع خفض ورفع؛ فأما الخفض فأن تردّه على الهاء
التى فى "به" على التكرير على كلامين كأنّك قلتَ اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع
فأن يكون مكرورا أيضا على موضع "ما" التى تلى "بِئس". ولا يجوز أن يكون رفعاً على
قولك بئس الرجل عبدالله، وكان الكسائىّ يقول ذلك. قال الفراء: وبئس لا يليها مرفوعٌ
موقّت ولا منصوبٌ موقَّت، ولها وجهان؛ فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفةً بحدوث
ألِفٍ ولام فيها نصبت تلك النكرةَ، كقولك: بِئس رجلاً عمرو، ونِعم رجلاً عمرو، وإذا
أوليتها معرفة فلتكن غير موقَّتة، فى سبيل النكرة، ألا ترى أنك ترفع فتقول: نِعم
الرجلُ عمرو، وبِئس الرجلُ عمرو، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعتَ ونصبتَ، كقولك:
نِعم غلامُ سفر زيدٌ، وغلامَ سفر زيدٌ وإن أضفت إلى المعرفة شيئا رفعتَ، فقلت: نِعم
سائسُ الخيل زيدٌ، ولا يجوز النّصب إلا أن يُضطرَّ إليه شاعرٌ، لأنهم حين أضافوا
إلى النكرة رفعوا، فهم إذا أضافوا إلى المعرفة أَحْرى ألاّ يَنْصبوا. وإذا أوليتَ
نِعم وبِئس من النكرات مالا يكون معرفةً مثل "مثْل" و "أَى" كان الكلام فاسدا؛ خطأٌ
أن تقول: نِعْمَ مِثْلُك زيدٌ، ونعم أَىُّ رجل زيد؛ لأن هذين لا يكونان مفسِّرين،
ألا ترى أنك لا تقول: [لله] دَرُّك مِن أىّ رجل، كما تقول: لِلّه دَرُّك مِن رجل.
ولا يصلح أن تُولِى نِعْم وبِئْسَ "الذى" ولا "مَنْ" ولا "ما" إلا أن تَنْوى بهما
الاكتفاء دون أن أتى بعد ذلك اسمٌ مرفوع. من ذلك قولك: بِئسما صنعت، فهذه مكتفية،
وساء ما صنعت. ولا يجوز ساء ما صنيعك. وقد أجازه الكسائى فى كتابه على هذا المذهب.
قال الفراء: ولا نعرف ماجهته، وقال: أرادت العرب أن تجعل "ما" بمنزلة الرجل حرفا
تامّاً، ثم أضمروا لِصنعتَ "ما" كأنّه قال: بئسما ما صنعت، فهذا قوله وأنا
أجيزه.
فإذا جعلت "نِعْمَ" (صلة
لما) بمنزلة قولك "كُلّما" و "إنّما" كانت بمنزلة "حَبّذَا" فرفعت بها الأسماء؛ من
ذلك قول الله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ} رفعت "هِىَ" بـ
"نِعِمَّا" ولا تأنيث فى "نِعم" ولا تثنيةَ إذا جعلت "ما" صلة لها فتصير "ما" مع "
نِعم" بمنزلة "ذا" من "حَبّذَا" ألا ترى أنّ "حبذا" لا يدخلها تأنيث ولا جمعٌ. ولو
جعلت "ما" على جهة الحشو كما تقول: عما قليلٍ آتيك، جاز فيه التأنيث والجمع، فقلت:
بئسما رجلين أنتما، وبئست ما جاريةً جاريتُك. وسمعت العرب تقول فى "نِعم" المكتفية
بما: بئسما تزويجٌ ولا مهر، فيرفعون التزويج بـ "بئسما".
وقوله: {بَغْياً أَن
يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...}
موضع "أنْ" جزاءٌ، وكان الكسائى يقول فى
"أنْ": هى فى موضع خفض، وإنما هى جزاءٌ.
إذا كان
الجزاء لم يقع عليه شىءٌ قبله (وكان) ينوى بها الاستقبال كسرتَ "إنْ" وجزمت بها
فقلت: أكرمك إنْ تَأتنِى. فإن كانت ماضية قلت: أكرمك أن تَأتِيَنى. وأبْيَنُ من ذلك
ان تقول: أكرمك أنْ أتَيْتَنى؛ كذلك قال الشاعر:
أتَجْزَعُ أنْ بَانَ الخَلِيطُ
المُوَدّعُ * وحَبْلُ الصَّفَا مِنْ عَزَّةَ المُتَقَطِّعُ
يريد أتجزع
بِأنْ، أو لأنْ كان ذلك. ولو أراد الاستقبالَ ومَحْض الجزاء لكسر "إنْ" وجزم بها،
كقول الله جلّ ثناؤه: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نفْسَكَ على آثارِهِمْ إنْ لَمْ
يُؤْمِنُوا} فقرأها القُرَّاء بالكسر، ولو قرِئت بفتح "أن" على معنى [إذ لم يؤمنوا]
ولأن لم يؤمنوا، ومن أن لم يؤمنوا [لكان صوابا] وتأويلُ "أن" فى موضع نصب، لأنها
إنما كانت أداة بمنزلة "إذْ" فهى فى موضع نصب إذا ألقيتَ الخافضَ وتَمَّ ما قبلها،
فإذا جعلتَ لها الفعل أو أوْقَعته عليها أو أحدثت لها خافضا فهى فى موضع ما يصيبها
من الرفع والنصب والخفض.
وقوله: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى
غَضَبٍ...}
لا يكون
(بَاءُوا) مفردةً حتى توصل بالباء. فيقال: باءَ بإثم يَبُوءُ بَوْءاً. وقوله
{بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أن الله غضب على اليهود فى قولهم: {يَدُ اللَّهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}. ثم غَضِب عليهم فى تكذيب محمد صلى الله عليه
وسلم حين دخل المدينة، فذلك قوله: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى
غَضَبٍ}.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ
بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
}
وقوله: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ...}
يريد سِواه، وذلك كثيرٌ فى
العربية أن يتكلّم الرجلُ بالكلام الحسن فيقول السّامع: ليس وراء هذا الكلام شىءٌ،
أى ليس عنده شىءٌ سواه.
وقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن
قَبْلُ...}
يقول القائل: إنما "تقتلون" للمستقبل فكيف قال: "مِن قَبْلُ"؟ ونحن
لا نجيز فى الكلام أنا أضربُك أمسِ، وذلك جائز إذا أردتَ بتفعلون الماضى، ألا ترى
أنّك تعنِّف الرجلَ بما سلف من فعله فتقول: وَيْحَك لِمَ تَكذب! لِم تُبغِّض نفسك
إلى الناس! ومثله قول الله: {وَاتَّبَعْوا ما تَتْلُو الشَّياطينُ عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ}. ولم يقل ما تَلَت الشياطين، وذلك عربىّ كثير فى الكلام؛ أنشدنى بعضُ
العرب:
إذا ما انتَسَبْنا لم تَلِدْنى لئِيمةٌ * ولم تَجِدِى مِن أَنْ تُقِرِّى
بها بُدَّا
فالجزاء للمستقبل،
والوِلادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروفٌ؛ ومثله فى الكلام: إذا نظرت فى سِيرِ
عمر رحمه الله لم يُسِئ؛ المعنى لم تجده أساء؛ فلما كان أمرُ عمر لا يشك فى مضيّه
لم يقع فى الوهم أنه مستقبل؛ فلذلك صلحت "مِنْ قَبْلُ". مع قوله: {فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ} وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة،
إنما قتل الأنبياءَ أسلافُهم الذين مَضَوا فتولَّوهم على ذلك ورَضُوا به فنُسِب
القتلُ إليهم.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ
الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
وقوله: {سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا...}
معناه سمعنا قولك وعصينا أمرك.
وقوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ...}
فإنه أراد: حُبَّ العِجل، ومثل هذا مما
تحذفه العرب كثيرٌ؛ قال الله: {واسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِى كُنَّا فِيهَا
والْعِيرَ الّتى أَقْبَلْنَا فِيهَا} والمعنى سل أهل القرية وأهل العِير؛ وأنشدنى
المفضَّل:
حَسِبْتَ بُغَامَ راحِلَتى عَنَاقاً * وما هِىَ وَيْبَ غَيْرِك
بالَعَنَاقِ
ومعناه: بُغام عَناق؛ ومثله من كتاب الله: {ولكِنّ البِرَّ مَنْ
آمنَ باللَّه} معناه والله أعلم: ولكنّ البِرّ بِرُّ من فعل هذه الأفاعيل التى وصف
الله. والعرب قد تقول: إذا سرّك أن تنظر إلى السّخاء فانظر إلى هَرِم أو إلى حاتم.
وأنشدنى بعضهم:
يَقُولون جاهِدْ يا جَمِيلُ بغَزْوَةٍ * وإنّ جِهاداً طَىِّءٌ
وقِتالُها
يجزئ ذكر الاسم من فعله إذا كان معروفا بسخاء أو شجاعة وأشباه
ذلك.
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ
عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ
صَادِقِينَ }
وقوله: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ
اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ...}
يقول: إن
كان الأمر على ما تقولون من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا
{فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فأَبَوْا، وذلك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يقوله أحد إِلا غصّ برِيقه". ثم إنه وصفهم فقال:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}
معناه والله أعلم: وأَحْرصَ من الذين أشركوا على الحياة. ومثْلُه أن تقول: هذا
أسْخَى النّاسِ ومِن هَرم. لأن التأويل للأوّل هو أسخى من الناس ومن هَرِم؛ ثمّ إنه
وصف المجوس فقال: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وذلك أن
تحيتهم فيما بينهم: (زِهْ هَزَارْ سَالْ). فهذا تفسيره: عِشْ ألفَ
سنة.
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }
وأما قوله: {قُلْ مَن
كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ...}
[يعنى القران] {عَلَى
قَلْبِكَ} [هذا أمرٌ] أمر الله به محمدا صلىالله عليه وسلم فقال: قل لهم لما قالوا
عدوّنا جبريل وأخبره الله بذلك، فقال: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} يعنى قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان فى
هذا الموضع "على قلبى" وهو يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم لكان صوابا. ومثله فى
الكلام: لا تقل للقوم إن الخير عندى، وعندَك؛ أمّا عندكَ فجازَ؛ لأنه كالخطاب،
وأمّا عندى فهو قول المتكلم بعينه. يأتى هذا من تأويل قوله: "سَتُغْلَبُونَ" و
"سَيُغْلَبُونَ" بالتاء والياء.