{ فَلَمَّا
فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن
شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ
مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ
فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ
اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
وقوله: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ
قَلِيلاً مِّنْهُمْ...}
وفى إحدى القراءتين: "إلا قليلٌ
منهم".
والوجه فى (إلاَّ) أن
يُنصَب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه، فإذا كان ما قبل إلاّ فيه جحد جَعَلت
ما بعدها تابعا لما قبلها؛ معرفة كان أو نكرة. فأمّا المعرفة فقولك: ما ذهب الناس
إلا زيد. وأمّا النكرة فقولك: ما فيها أحَدٌ إلاَّ غلامُك، لم يأت هذا عن العرب إلا
بإتباع ما بعد إلا ما قبلها. وقال الله تبارك تعالى: {ما فعلوه إلاّ قليل مِنهم}
لأن فى (فعلوه) اسما معرفة، فكان الرفع الوجهَ فى الجحد الذى يَنفى الفعل عنهم،
ويثبته لما بعد إلاّ. وهى فى قراءة أَبىّ "ما فعلوه إلا قليلا" كأنه نَفَى الفعل
وجَعَل ما بعد إلاَّ كالمنقطِع عن أوّل الكلام؛ كقولك: ما قام القومُ، اللهم إلاّ
رجلا فإذا نويت الانقطاع نصبت وإذا نويت الاتّصال رفعت. ومثله قوله: {فلولا كانت
قرية آمنت فنفعها إِيمانها إلا قوم يونس} فهذا على هذا المعنى، ومثله: {فلولا كان
مِن القُرُونِ مِن قَبْلِكم أُولُو بقِيّةٍ ينهون عن الفساد فى الأرض} ثم قال: {إلا
قلِيلا ممن أَنجينا منهم} فأوّل الكلام - وإن كان استفهاما - جحد؛ لأن لولا بمنزلة
هَلاّ؛ ألا ترى أنك إذا قلت للرجل: (هَلاّ قمت) أنّ معناه: لَم تَقُمْ. ولو كان ما
بعد (إلاّ) فى هاتين الآيتين رفعا على نِيَّة الوصل لكان صوابا؛ مثل قوله: {لو كان
فيهما آلهة إلاَّ اللّهُ لفسدتا} فهذا نيَّة وصل؛ لأنه غير جائز أن يوقَق على ما
قبل (إلا).
وإذا لم تر قبل (إلا) اسما فأعمِلْ ما قبلها فيما بعدها. فتقول: (ما
قام إلا زيد) رفعت (زيدا) لإعمالك (قام)؛ إذ لم تجد (قام) اسما بعدها. وكذلك:
ماضربت إلا أخاك، وما مررت إلا بأخيك.
وإذا كان الذى قبل (إلا)
نكرة مع جحد فإنك تُتْبِع ما بعد إلا ما قبلها؛ كقولك: ما عندى أحد إلاّ أخوك. فإن
قدّمت إلاَّ نصبت الذى كنت ترفعه؛ فقلت: ما أتانى ألا أخوك أحد. وذلك أن (إلاّ)
كانت مسوقة على ما قبلها فاتّبعه، فلما قُدّمت فمنع أن يتبع شيئا هو بعدها فاختاروا
الاستثناء. ومثله قول الشاعر:
لَمِيَّة مُوحِشاً طَلَلٌ * يلوح كأنه
خِلَل
المعنى: لمية طلل موحش، فصلح رفعه لأنه أُتبِع الطلل، فلمّا قدّم لم يجز
أن يتبع الطلل وهو قبله. وقد يجوز رفعه عل أن تجعله كالاسم يكون الطَلَل ترجمة عنه؛
كما تقول: عندى خُرَاسانيَّةٌ جاريةٌ، والوجه النصب فى خراسانية. ومن العرب من يرفع
ما تقدّم فى إلاَّ على هذا التفسير. قال: وأنشدونا:
بالثِنْىِ أسفلَ من جَمَّاءَ
ليس له * إلاَّ بنيهِ وإلا عِرْسَه شِيعَ
وينشد: إلا بنوه وإلاّ عِرْسُه. وأنشد
أبو ثَرْوان:
ما كان منذ تركنا أهل أَسْمنُةٍ * إلا الوجيفَ لها رِعْىٌ ولا
عَلَفُ
ورفع غيره. وقال ذو الرَّمة:
مُقَزَّعٌ أطلسُ الأطمارِ ليس له * إلا
الضِرَاءَ وإلا صيدَها نَشَبُ
ورَفْعُه على أنه بنى كلامه على: ليس له إلا
الضراءُ وإلا صيدُها، ثم ذكر فى آخر الكلام (نشب) ويبيّنه أن تجعل موضعه فى أوّل
الكلام.
{كَم مِّن فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةًً} وفى قراءة أُبَىّ "كأيّن مِن فِئةٍ قليلة
غلبت" وهما لغتان. وكذلك {وكأيّن من نبى} هى لغات كلّها معناهنّ معنى كم. فإذا
ألقيت (مِنْ) كان فى الاسم النكرةِ النصبُ والخفضُ. من ذلك قول العرب: كم رجلٍ كريم
قد رأيت، وكم جيشا جَرّارا قد هزمت. فهذان وجهان، يُنصَبان ويُخفَضان والفعل فى
المعنى واقع. فإن كان الفعل ليس بواقع وكان للاسم جاز النصب أيضا والخفض. وجاز أن
تُعْمِل الفعل فترفعَ به النكرة، فتقول: كم رجلٌ كريمٌ قد أتانى، ترفعه بفعله،
وتُعْمِل فيه الفعلَ إن كان واقعا عليه؛ فتقول: كم جيشا جرّارا قد هزمت، نصبته
بهزمت. وأنشدوا قول الشاعر:
كم عمَّة لك يا جَرِيرُ وخالة * فَدْعاء قد حَلَبَتْ
علىَّ عِشارِى
رفعا ونصبا وخفضا، فمن نصب قال: كان أصل كم الاستفهام، وما بعدها
من النكرة مفسِّر كتفسير العدد، فتركناها فى الخبر على جهتها وما كانت عليه فى
الاستفهام؛ فنصبنا ما بعد (كم) من النكرات؛ كما تقول: عندى كذا وكذا درهما، ومن خفض
قال: طالت صُحبة مِن للنكرة فى كَمْ، فلمَّا حذفناها أعملنا إرادتها، فخفضنا، كما
قالت العرب إذا قيل لأحدهم: كيف أصبحتَ؟ قال: خيرٍ عافاك الله، فخفض، يريد: بخير.
وأمّا من رفع فأعمل الفعل الآخِر، [و] نوى تقديم الفعل كأنه قال: كم قد أتانى رجل
كريم. وقال امرؤ القيس:
تَبُوصُ وكَمْ مِن دونها من مفازةٍ * وكم أرضُ جَدْب
دونها ولُصُوصُ
فرفع على نيّة تقديم الفعل. وإنما جعلت الفعل مقدّما فى النية
لأن النكرات لا تَسبق أفاعيلها؛ ألا ترى أنك تقول: ما عندى شىء، ولا تقول ما شىء
عندى.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَاذِهِ
اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ
كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ
مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ
إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ
أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن
لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ
يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
وقوله: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ...}
وإدخال العرب (إلى) فى هذا
الموضع على جهة التعجُّب؛ كما تقول للرجل: أما ترى إلى هذا! والمعنى - والله أعلم
-: هل رأيت مثل هذا أو رأيت هكذا! والدليل على ذلك أنه قال: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ} فكأنه قال: هل رأيت كمِثْل الذى حاجّ إبراهيم فى ربه {أَوْ
كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وهذا فى جهته
بمنزلة ما أخبرتُك به فى مالَك وما مَنَعك. ومثله قول الله تبارك وتعالى: {قل لِمن
الأرض وَمن فيها إن كنتم تعلمون. سيقولون لِلّه} ثم قال تبارك وتعالى: {قل من ربُّ
السموات السّبْع وربّ العرش العظيم. سيقولون لله} فجعل اللام جوابا وليست فى أوّل
الكلام. وذلك أنك إذا قلت: مَنْ صاحب هذه الدار؟ فقال لك القائل: هى لزيد، فقد
أجابك بما تريد. فقوله: زيدٌ ولزيدٍ سواء فى المعنى. فقال: أنشدنى بعض بنى
عامر:
فأَعلمُ أننى سأكونُ رَمْساً * إذا سار النواجعُ لا يَسير
فقال
السائرون لمن حفرتم * فقال المخبرون لهم: وزير
ومثله فى الكلام أن يقول
لك الرجل: كيف أصبحتَ؟ فتقول أنت: صالح، بالرفع، ولو أجبتَه على نفس كلمته لقلت:
صالحا. فكفاك إخبارك عن حالك من أن تلزم كلمته. ومثله قول الله تبارك وتعالى {ما
كان محمد أَبا أَحدٍ مِن رِجالِكم ولكِن رسول الله} وإذا نصبت أردت: ولكن كان رسول
الله، وإذا رفعت أخبرت، فكَفَاك الخبر مما قبله. وقوله: {ولا تحسبن الذيِن قتِلوا
فِى سبيل الله أمواتا بل أَحياء} رفع وهو أوجه من النصب، لأنه لو نصب لكان على:
ولكن احسبهم أحياء؛ فطرح الشكِّ من هذا الموضع أجود. ولو كان نصبا كان صوابا كما
تقول: لا تظننه كاذبا، بل اظْنُنْه صادقا. وقال الله تبارك وتعالى: {أيحسب الإنسان
أن لن نجمع عِظامه بلى قادِرين على أن نسوّى بنانه} إن شئت جعلت نصب قادرين من هذا
التأويل، كأنه فى مثله من الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أزورك؟ بل سريعا إن شاء
الله، كأنه قال: بلى فاحسَبْنى زائِرَك. وإن كان الفعل قد وقع على (أن لن نجمع)
فإنه فى التأويل واقع على الأسماء. وأنشدنى بعضُ بنى فَقْعَس:
أجِدَّك لن ترى
بثُعَيلِبات * ولا بَيْدان نَاجيةً ذَمولا
ولا متداركٍ والشمسُ طِفْلٌ * ببعض
نواشغ الوادى حُمولا
فقال: ولا متداركٍ، فدلَّ ذلك على أنه أراد ما أنت براءٍ
بثعيلِبات كذا ولا بمتداركٍ. وقد يقول بعض النحويّين: إنا نصبنا (قادرين) على أنها
صُرِفت عن نَقْدِر، وليس ذلك بشىء، ولكنه قد يكون فيه وجه آخر سوى ما فسَّرت لك:
يكون خارجا من (نجمع) كأنه فى الكلام قول القائل: أتحسب أن لن أضربك؟ بلى قادرا على
قتلك، كأنه قال: بلى أضربك قادراً على أكثر من ضربك.
وقوله:{كَمْ لَبِثْتَ} وقد
جرى الكلام بالإدغام للثاء؛ لقيت التاءَ وهى مجزومة. وفى قراءة عبدالله
(اتَّخَتُّمُ العجل) (وإنى عُتُّ بربى وربكم) فأدغمت الذال أيضا عند التاء. وذلك
أنهما متناسبتان فى قرب المخرج، والثاء والذال مخرجهما ثقيل، فأنزل الإدغام بهما
لثقلهما؛ ألا ترى أن مخرجهما من طَرَف اللسان. وكذلك الظاء تشاركهن فى الثقل. فما
أتاك من هذه الثلاثة الأحرف فأدغم. وليس تركك الإِدغام بخطأ، إنما هو استثقال.
والطاء والدال يدغمان عند التاء أيضا إذا أسكنتا؛ كقوله: {أحطت بما لم تحِط به}
تخرج الطاء فى اللفظ تاء، وهو أقرب إلى التاء من الأحرف الأُوَل، تجدُ ذلك إذا
امتجنت مخرجيهما.
وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} جاء التفسير: لم يتغير [بمرور
السنين عليه، مأخوذ من السنة]، وتكون الهاء من أصله [من قولك: بعته مسانهة، تثبت
وصلا ووقفا. ومن وصله بغير هاء جعله من المساناة؛ لأن لام سنة تعتقب عليها الهاء
والواو]، وتكون زائِدةً صلةً بِمنزلة قوله {فبِهداهم اقتدِهْ} فمن جعل الهاء زائدة
جعل فعَّلت منه تسنيت؛ ألا ترى أنك تجمع السنة سنوات فيكون تفعَّلت على صحة, ومن
قال في [تصغير] السنة سُنَينة وإن كان ذلك قليلا جاز أن يكون تسنيت تفعَّلت أبدلت
النون بالياء لمَّا كثُرت النونات، كما قالوا تظنَّيت وأصله الظن. وقد قالوا هو
مأخوذ من قوله {من حمإٍ مسنون} يريد: متغيّر. فإن يكن كذلك فهو أيضا مما أبدلت نونه
ياء. ونرى أن معناه مأخوذ من السنة؛ أى لم تُغيّره السنون. والله أعلم. حدّثنا محمد
بن الجهم، قال حدّثنا الفراء، قال حدّثنى سفيان بن عُيَيْنة رفعه إلى زيد ابن ثابت
قال: كُتِب فى حَجَر ننشزها ولم يتسن وانظر إلى زيد بن ثابت فنقَط على الشين والزاى
أربعا وكتب (يتسنه) بالهاء. وإن شئت قرأتها فى الوصل على وجهين: تثبت الهاء
وتجزمها، وإن شئت حذفتها؛ أنشدنى بعضهم:
فليست بسَنْهاء ولا
رُجَّبِيَّة * ولكنْ عَرَايَا فى السنينَ الجوائح
والرُجَّبِيَّة: التى تكاد
تسقط فيُعْمَد حولها بالحجارة. والسنهاء: النخلة القديمة. فهذه قوّة لمن أظهر الهاء
إذا وَصَل.
وقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} إنما أدخلت فيه الواو لنيّة
فعل بعدها مضمر؛ كأنه قال: ولنجعلك آية فعلنا ذلك. وهو كثير فى القرآن. وقوله
{آيَةً لِلنَّاسِ} حين بُعث أسودَ اللحية والرأس وبنو بنيه شِيب، فكان آية
لذلك.
وقوله {ننشزها} قرأها زيد بن ثابت كذلك، والإنشاز نقلها إلى موضعها.
وقرأها ابن عباس "نُنْشِرها". إنشارها: إحياؤها. واحتجَّ بقوله: {ثم إذا شاء أنشره}
وقرأ الحسن - فيما بلغنا - (نَنْشُرُها) ذهب إلى النشر والطىّ. والوجه أن تقول:
أنشر الله الموتى فنَشروا إذا حَيُوا، كما قال الأعشى:
* يا عجبا للميت الناشِرِ
*
وسمعت بعض بنى الحارث يقول: كان به جَرَب فنَشَر،
أى عاد وحيى. وقوله: "فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شىء قدير" جزمها ابن
عبّاس، وهى فى قراءة أُبَىّ وعبدالله جميعا: "قيل له اعْلَمْ" واحتجَّ ابن عباس
فقال: أهو خير من إبراهيم وأفقه؟ فقد قيل له: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ} والعامّة تقرأ: "أعلم أن الله" وهو وجه حسن؛ لأن المعنى كقول الرجل عند
القدرة تتبين له من أمر الله: (أشهد أن لا إله إلا الله) والوجه الآخَر أيضا
بيّن.
وقوله {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} ضمَّ الصادَ العامّة. وكان أصحاب
عبدالله يكسرون الصاد. وهما لغتان. فأمّا الضمُّ فكثير، وأما الكسر ففى هُذَيل
وسُلَيم. وأنشدنى الكسائىّ عن بعض بنى سُلَيم:
وفَرْعٍ يصير الجِيدَ وَحْفٍ كأنه
* على اللِيتِ قِنْوانُ الكروم الدوالح
ويفسّر معناه: قطِّعهن،
ويقال: وجِّههن. ولم نجد قَطِّعْهُنَّ معروفة من هذين الوجهين، ولكنى أرى - والله
أعلم - أنها إن كانت من ذلك أنها من صَرَيْت تصرِى، قدّمت ياؤها كما قالوا: عِثْتُ
وعثَيْتُ، وقال الشاعر:
صَرَتْ نظرة لو صادفت جَوْزَ دارِع * غَدَا والعَوَاصِى
من دمِ الجوف تنعَرُ
والعرب تقول: بات يَصْرِى فى حوضه إذا استقى ثم قطع واستقى؛
فلعله من ذلك . وقال الشاعر:
يقولون إن الشأم يقتلُ أهلَه * فمَنْ لِىَ إن لم
آتِه بخُلُود
تَعَرَّب آبائى فهَلاَّ صَرَاهم * من الموت أن لم يذهبوا
وجُدُودِى
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ
فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ
الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ
فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ }
وقوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ
مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ...}
ثم قال بعد ذلك
{وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} ثم قال {فَأَصَابَهَآ
إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } فيقول القائل: فهل يجوز فى الكلام أن
يقول: أتودّ أنّ تصيب مالا فضاع، والمعنى: فيضيع؟ قلت: نعم ذلك جائز فى ودِدت؛ لأن
العرب تَلْقاها مرَّة بـ (أن) ومرَّة بـ (لو) فيقولون: لودِدْت لو ذهبتَ عنا، [و]
وددت أن تذهب عنا، فلمّا صلحت بَلْو وبأن ومعناهما جميعا الاستقبال استجازوا أن
يَرُدُّوا فَعَل بتأويل لوْ، على يفعل مع أن. فلذلك قال: فأصابها، وهى فى مذهبه
بمنزلة لو؛ إذ ضارعت إن بمعنى الجزاء فوُضعت فى مواضعها، وأُجيبت إن بجواب لو، ولو
بجواب إن؛ قال الله تبارك وتعالى {ولا تنكِحوا المشرِكاتِ حتى يُؤْمِنَّ ولأَمَةٌ
مؤمنة خير مِن مشرِكة ولو أعجبتكم} والمعنى - والله أعلم -: وإن أعجبتكم؛ ثم
قال{ولئن أَرْسَلْنَا رِيحا فرأوه مصفرا لظلوا [من بعده يكفرون]} فأجيبت لئن بإجابة
لو ومعناهما مستقبل. ولذلك قال فى قراءة أبىّ "ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن
أسلِحتكم وأمتِعتِكم فيمِيلوا" ردّه على تأويل: ودّوا أن تفعلوا. فإذا رفعت
(فيميلون) رددت على تأويل لو؛ كما قال الله تبارك وتعالى {ودّوا لو تدهِن فيدهنون}
وقال أيضا {وتودّون أن غير ذات الشوكةِ تكون لكْم} وربما جمعت العرب بينهما جميعا؛
قال الله تبارك وتعالى {وما عمِلت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} وهو
مِثْل جمع العرب بين ما وإن وهما جحد؛ قال الشاعر:
قد يكسِبُ المالَ الهِدَانُ
الجافى * بغير لا عَصْفٍ ولا اصطراف
وقال آخر:
ما إن رأينا مثلهن لمعشر* سُود
الرءوس فوالج وفُيُول
وذلك لاختلاف اللفظين يجعل أَحدهما لَغْوا. ومثله قولُ
الشاعر:
من النفر اللاء الذين إذا هُمُ * تهاب اللئام حَلْقة الباب
قعقعوا
ألا ترى أنه قال: اللاء
الذين، ومعناهما الذين، استجيز جمعهما لاختلاف لفظهما، ولو اتفقا لم يجز. لا يجوز
ما ما قام زيد، ولا مررت بالذين الذين يطوفون. وأمَّا قول الشاعر:
كماما أمرؤٌ
فى معشرٍ غيرِ رَهطِه * ضعيفُ الكلام شخصُه متضائل
فإنما استجازوا الجمع بين ما
وبين [ما] لأن الأولى وُصِلت بالكاف، - كأنها كانت هى والكاف اسماً واحدا - وَلم
توصَل الثانية، واستُحسن الجمع بينهما. وهو فى قول الله {كلاَّ لا وَزَر} كانت لا
موصولةً، وجاءت الأخرى مفردة فحسن اقترانهما. فإذا قال القائل: (ما ما قلتُ بحسَنٍ)
جاز ذلك على غير عيب؛ لأنه يجعل ما الأولى جحدا والثانية فى مذهب الذى. [وكذلك لو
قال: مَن مَنْ عندك؟ جاز؛ لأنه جعل من الأول استفهاما، والثانى على مذهب الذى].
فإذا اختلف معنى الحرفين جاز الجمع بينهما.
وأمّا قول الشاعر:
* كم نِعْمةٍ
كانت لهاكم كم وكم *
إنما هذا تكرير حرف، لو وقعْتَ على الأوّل أجزاك من الثانى.
وهو كقولك للرجل: نعم نعم ، تكررها، أو قولك: اعجل اعجِل، تشديدا للمعنى. وليس هذا
من البابين الأولين فى شىء. وقال الشاعر:
هلاَّ سألتَ جُمُوعَ كنـ * دَةَ يوم
ولَّواْ أين أينا
وأمَّا قوله: (لم أَره مندُ يوم يوم) فإنه يُنوَى بالثانى غير
اليوم الأوّل، إنما هو فى المعنى: لم أره منذ يوم تعلم. وأمَّا قوله:
نحمِى
حقيقتَنا وبعـ * ضُ القوم يسقط بينَ بينا
فإنه أراد: يسقط هو لا بين هؤلاء ولا
بين هؤلاء. فكان اجتماعهما فى هذا الموضع بمنزلة قولهم: هو جارى بيتَ بيتَ، ولقِيته
كَفَّة كفّة؛ لأن الكَفَّتين واحدة منك وواحدة منه. وكذلك هو جارِى بيت بيتَ منها:
بيتى وبيتُه لصِيقان. قال: كيف قال قوله: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ
فَطَلٌّ...}
وهذا الأمر
قد مضى؟ قيل: أُضمرَت (كان) فصلح الكلام. ومثله أن تقول: قد أَعتقتُ عبدين، فإن لم
أُعتِق اثنين فواحدا بقيمتهما، والمعنى إلاَّ أكن؛ لأنه ماض فلا بدَّ من إضمار كان؛
لأن الكلام جزاء. ومثله قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلِدْنى لئيمةٌ * ولم
تجِدِى مِن أن تُقِرّى بها بُدّا
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ
الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ
إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
}
وقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ...}
فُتِحت
(أن) بعد إلاَّ وهى فى مذهب جزاء. وإنما فتحتها لأن إلا قد وقعت عليها بمعنى خفضٍ
يصلح. فإذا رأيت (أن) فى الجزاء قد أصابها معنى خفضٍ أو نصب أو رفع انفتحت. فهذا من
ذلك. والمعنى - والله أعلم - ولستم بآخذيه إلا على إغماض، أوبإغماض، أو عن إغماضٍ,
صفة غير معلومة. ويدلك على أنه جزاء أنك تجد المعنى: أو أغمضتم بعض الإغماض
أخذتموه. ومثله قوله: {إلا أن يخافا ألاَّ يقِيما حدودَ الله} ومثله {إلاَّ أن
يعفون} هذا كلُّه جزاء، وقوله {ولا تقولنَّ لِشىءٍ إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء
الله} ألا ترى أن المعنى: لا تقُلْ إنى فاعل إلا ومعها إن شاء الله؛ فلمَّا قطعتْها
(إلا) عن معنى الابتداء، مع ما فيها من نيَّة الخافض فُتحت. ولو لم تكن فيها
(إلاَّ) ترِكتْ على كسرتها؛ من ذلك أن تقول: أحسِنْ إن قُبِل منك . فإن أدخلت
(إلاَّ) قلت: أحسن إلا ألاَّ يقبل منك. فمثله قوله {وأن تعفوا أقربُ للتقوى}، {وأن
تصوموا خير لكم} هو جزاء، المعنى: إن تصوموا فهو خير لكم. فلما أنْ صارت (أن)
مرفوعة بـ (خير) صار لها ما يُرافِعها إن فتحت وخرجت من حدّ الجزاء. والناصب
كذلك.
ومثله من الجزاء الذى إذا
وقع عليه خافض أو رافع أو ناصب ذهب عنه الجزم قولك: اضربه مَنْ كان، ولا آتيك ما
عشت. فمَن وما فى موضع جزاء، والفعل فيهما مرفوع فى المعنى؛ لأنَّ كان والفعل الذى
قبله قد وقعا على (مَن) و (ما) فتغيَّر عن الجزم ولم يخرج من تأويل الجزاء؛ قال
الشاعر:
فلستُ مقاتِلا أبداً قُرَيشا * مُصيبا رَغْمُ ذلك مَنْ أصابا
فى
تأويل رفع لوقوع مُصيب على مَنْ.
ومِثله قول الله عزَّ وجلَّ {وللّهِ على الناسِ
حِجّ البيتِ منِ استطاع} إن جعلت (مَنْ) مردودة على خفض (الناس) فهو مِن هذا،
و(استطاع) فى موضع رفع، وإن نويت الاستئناف بمَنْ كانت جزاء، وكان الفعل بعدها
جزما، واكتفيت بما جاء قبله من جوابه. وكذلك تقول فى الكلام: أيُّهم يقم فاضرب، فإن
قدّمْتَ الضرب فأوقعته على أىّ قلت اضرب أيَّهم يقوم؛ قال بعض العرب: فأيُّهم ما
أخذها ركب على أيهم يريد. ومنه قول الشاعر:
فإنى لآتيكم تشَكُّرَ ما مضى * من
الأمر واستيجابَ ما كان فى غد
لأنه لا يجوز لو لم يكن جزاء أن تقول: كان فى غد؛
لأن (كان) إنما خُلِقتْ للماضى إلاَّ فى الجزاء فإنها تصلح للمستقبل. كأنه قال:
استيجاب أىّ شىء كان فى غد.
ومِثل إنْ فى الجزاء فى انصرافها عن الكسر إلى الفتح
إذا أصابها رافع قول العرب: (قلت إنك قائم) فإنّ مكسورة بعد القول فى كل تصرّفه.
فإذا وضعت مكان القول شيئا فى معناه مما قد يحدِث خفضا أو رفعا أو نصبا فتحت أنّ،
فقلت: ناديت أنك قائم، ودعوت، وصحت وهتفت. وذلك أنك تقول: ناديت زيدا، ودعوت زيدا،
وناديت بزيد، (وهتفت بزيد) فتجد هذه الحروف تنفرد بزيد وحده؛ والقول لا يصلح فيه أن
تقول: قلت زيدا، ولا قلت بزيد. فنفذت الحكاية فى القول ولم تنفُذ فى النداء؛
لاكتفائه بالأسماء. إلا أن يُضطرَّ شاعر إلى كسر إنَّ فى النداء وأشباهه، فيجوز له؛
كقوله:
إنى سأبدى لك فيما أُبدِى * لى شَجَنان شَجَنٌ بنجد
* وشَجَن لى ببلاد
الهند *
لو ظهرت إنّ فى هذا الموضع
لكان الوجه فتحها. وفى القياس أن تكسر؛ لأن رفع الشجنين دليل على إرادة القول،
ويلزم مِن فتح أنّ لو ظهرت أن تقول: لى شجنين شجنا بنجد.
فإذا رأيت القول قد وقع على شىء فى المعنى كانت أنّ مفتوحة. من
ذلك أن تقول: قلت لك ما قلت أنك ظالم؛ لأنّ ما فى موضع نصب. وكذلك قلت: زيد صالح
أنه صالح؛ لأن قولك (قلت زيد قائم) فى موضع نصب. فلو أردت أنْ تكون أنّ مردودة على
الكلمة التى قبلها كَسَرتَ فقلت: قلت ما قلت: إن أباك قائم، (وهى الكلمة التى
قبلها) وإذا فتحت فهى سواها. قول الله تبارك وتعالى {فلينظر الإنسان إلى طعامه
أنَّا} وإنا، قد قرئ بهما. فمن فتح نوى أن يجعل أنّ فى موضع خفض، ويجعلها تفسيراً
للطعام وسببه؛ كأنه قال: إلى صبّنا الماء وإنباتنا ما أنبتنا. ومن كسر نوى الانقطاع
من النظر عن إنّا؛ كأنه قال: فلينظر الإنسان إلى طعامه، ثم أخبر
بالاستئناف.
{ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا
تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
وقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إِلْحَافاً...}
ولا غيرَ إلحاف. ومثله قولك فى الكلام: قلَّما رأيت
مثلَ هذا الرجل؛ ولعلَّك لم تر قليلا ولا كثيرا من
أشباهه.