وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ...}
تجعل "ما" فى موضع نصبِ وتوقِع
عليها "ينفِقون", ولا تنصبها بـ (يَسْألونك) لأنّ المعنى: يسألونك أىَّ شىء ينفقون.
وإن شِئت رفعتها من وجهين؛ أحدهما أن تجعل "ذا" اسما يرفع ما, كأنك قلت: ما الذى
ينفقون. والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذى؛ فيقولون: ومن ذا يقول ذاك؟ فى
معنى: من الذِى يقول ذاك؟ وأنشدوا:
عَدَسْ ما لِعبّادٍ عليكِ إِمارة * أَمِنْتِ
وهذا تحمِلين طَلِيق
كأنه قال: والذى تحملين طليق. والرفع الآخر أن تجعل كلّ
استفهام أوقعت عليه فعلا بعده رفعا؛ لأنّ الفعل لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام،
فجعلوه بمنزلة الذى؛ إذ لم يعمل فيه الفعل الذى يكون بعدها. ألا ترى أنك تقول: الذى
ضربت أخوك، فيكون الذِى في موضع رفع بالأَخِ، ولا يقع الفعل الذى يليها عليها. فإذا
نويت ذلك رفعت قولَه: {قلِ العفو كذلك}؛ كما قال الشاعر:
ألا تسأَلانِ المرء
ماذا يُحاوِل * أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أم ضَلالٌ وباطِل
رفع النحب؛ لأنه نوى أن
يجعل "ما" فى موضع رفع. ولو قال: أنحبا فيقضى أم ضلالا وباطلا كان أبين فى كلام
العرب. وأكثر العرب تقول: وأيُّهم لم أضرب وأيُّهم إلاّ قد ضربت رفع؛ للعلّة من
الاستئناف من حروف الاستفهام وألاّ يسبقها شىء.
ومما يشبه الاستفهام مما يُرفع
إذا تأخَّر عنه الفعل الذى يقع عليه قولهم: كلُّ الناس ضربت. وذلك أن فى (كلّ)
مِثْل معنى هل أحدٌ [إلاّ] ضربت، ومثل معنى أىُّ رجل لم أضرب، وأىُّ بلدة لم أدخل؛
ألا ترى أنك إذا قلت: كلُّ الناس ضربت؛ كان فيها معنى: ما منهم أحد إلا قد ضربت،
ومعنى أيهم لم أضرب. وأنشدنى أبو ثَرْوان:
وقالوا تعرَّفْها المنازلَ
ممن مِنىً * وما كُلُّ من يغشى مِنىً أنا عارف
رفعا، ولم أسمع أحدا نَصَب كل.
قال: وأنشدونا:
وما كُلُّ مَنْ يَظَّنُّنِى أنا مُعتِب * وما كُلُّ ما يُرْوَى
علىَّ أقول
ولا تتوهَّم أنهم رفعوه بالفعل الذى سبق إليه؛ لأنهم قد
أنشدونا:
قد عَلِقَت أُمّ الخيار تدَّعى * علىَّ ذنبا كُلُّه لم أصنع
رفعا.
وأنشدنى أبو الجرَاح:
أرَجَزا تريد أم قريضا * أم هكذا بينهما تعريضا
*
كلاهما أجِدُ مستريضا *
فرفع كُلاّ وبعدها (أجد)؛ لأن المعنى: ما منهما واحد إلا
أجده هيّنا مستريضا. ويدلّك على أن فيه ضمير جحد قولُ الشاعر:
فكلهمُ جاشاك إلا
وجدته * كعين الكذوب جهدها واحتفالها
{ يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ
مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ
يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ
وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـائِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـائِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ...}
وهى فى قراءة عبدالله "عن قتال فيه" فخفضته على
نيّة (عن) مضمرة. {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ففى
الصدّ وجهان: إن شئت جعلته مردودا على الكبير، تريد: قل القتال فيه كبير وصدّ عن
سبيل الله وكفر به. وإن شئت جعلت الصدّ كبيرا؛ تريد: قل القتال فيه كبير؛ وكبير
الصدّ عن سبيل الله والكفر به.
{وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} مخفوض بقوله: يسألونك عن القتال وعن المسجد. فقال الله تبارك وتعالى:
{وإِخراج أَهلِه} أهِل المسجد {مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ} من القتال فى الشهر
الحرام. ثم فسَّر فقال تبارك وتعالى: {وَالْفِتْنَةُ} - يريد الشرك - أَشدُّ من
القتال فيه.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا
وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذالِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ
لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
قوله: {قُلِ
الْعَفْوَ...}
وجهُ الكلام فيه النصب، يريد: قل ينفقون العفو. وهو فَضْل المال
[قد] نسخته الزكاة [تقول: قد عفا].
{ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ
وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
وقوله:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى...}
يقال للغلام يَتم ييتْمَ
يُتْماً ويَتْماً. قال: وحُكِى لى يَتَم يَيْتِم. {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ} ترفع الإخوان على الضمير (فهم)؛ كأنك قلت (فهم إخوانكم) ولو نصبته
كان صوابا؛ يريد: فإخوانَكم تخالطون، ومثله {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانُكم فى
الدِينِ وموالِيكم} ولو نصبت ههنا على إضمار فعل (ادعوهم إخوانكم ومواليكم). وفى
قراءة عبدالله "إِن تغذِّبْهُمْ فعِبادُكَ" وفى قراءتنا "فإنَّهم عبادك" وإنما
يُرفع مِن ذا ما كان اسما يحسن فيه "هو" مع المرفوع. فإذا لم يحسن فيه "هو" أجريته
على ما قبله؛ فقلت: إن اشتريت طعاما فجيِّدا، أى فاشترِ الجَّيد، وإن لبِست ثيابا
فالبياضَ؛ تنصب لأن "هو" لا يحسن ههنا، والمعنى فى هذين ههنا مخالف للأوّل؛ ألا ترى
أنك تجد القوم إخوانا وإن جُحِدوا، ولا تجد كلّ ما يُلْبَس بياضا، ولا كلّ ما يشترى
جَيّدا. فإن نويت أن ماولى شراءه فجيّد رفعت إذا كان الرجل قد عُرِف بجوْدَة الشراء
وبلبوس البياض. وكذلك قول الله {فإن خفتم فرِجالا} نصب؛ لأنه شىء ليس بدائم، ولا
يصلح فيه "هو" ألا ترى أن المعنى: إن خفتم أن تُصَلُّوا قياما فصَلّوا رِجَالا أو
ركبانا [رجالا يعنى: رجَّالة] فنُصِبا لأنهما حالان للفعل لا يصلحان
خبرا.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} المعنى فى مثله من
الكلام: الله يعلم أيُّهم يُفْسد وأيُّهم يُصلح. فلو وضعت أيّا أو مَنْ مكان الأوّل
رفعته، فقلت: أنا أعلم أيُّهم قام مِن القاعد، قال [الفرّاء] سمعت العرب تقول: ما
يعرِف أىّ مِن أىّ. وذلك أن (أىّ) و (مَن) استفهامان، والمفسد خبر. ومثله ما أبالى
قيامَك أو قعودَك، ولو جعلت فى الكلام استفهاما بطل الفعل عنه فقلت: ماأبالى أقائم
أنت أم قاعد. ولو ألقيت الاستفهام اتّصل الفعل بما قبله فانتصب. والاستفهام كله
منقطع مما قبله لِخلقة الابتداء به.
وقوله: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ
لأَعْنَتَكُمْ...}
يقال: قد عَنِت الرجل
عَنَتا، وأعنته الله إعناتا.
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ
وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَائِكَ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ
بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
}
وقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ...}
يريد: لا تَزَوّجوا.
والقُرَّاء على هذا. ولو كانت: ولا تُنْكِحوا المشركاتِ أى لا تُزوّجوهن المسلمين
كان صوابا. ويقال: نكَحها نَكْحا ونِكاحا.
وقوله: {وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ...}
كقوله: وإن أعجبتكم. ولَوْ وإنْ متقارِبان فى المعنى. ولذلك
جاز أن يجازَى لَو بجواب إِنْ، إِن بجواب لَوْ فى قوله: {ولئن أَرْسَلْنا رِيحاً
فَرأَوْه مُصْفَراً لظَلُّوا من بعدِه يَكْفُرون}. وقوله: "فرأَوه" يعنى بالهاء
الزَّرعَ.
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ
النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }
وقوله: {حَتَّى
يَطْهُرْنَ...}
بالياء. وهى فى قراءة عبدالله إن شاء الله "يتطهرن" بالتاء،
والقُرَّاء بعدُ يقرءون "حتى يَطْهُرن، وَيطَّهَّرن" [يَطْهُرْنَ]: ينقطع عنهن
الدم، ويتطهرن: يغتسلن بالماء. وهو أحبُّ الوجهين إلينا:
يطَّهَّرن.
{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ولم يقل: فى حَيْثُ، وهو الفرج. وإنما قال: من حيث كما تقول
للرجل: اِيت زيدا من مأتاه من الوجه الذى يؤتى منه. فلو ظهر الفرج ولم يُكْنَ عنه
قلت فى الكلام: اِيتِ المرأة فى فرجها. {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللَّهُ} يقال: اِيت الفرج من حيث شئت.
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ
وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله:
{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...}
[أى] كيف
شئتم. حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى شيخ عن ميمون بن مِهران
قال قلت لابن عباس: إن اليهود تزعم أن الرجل إذا أتى امرأته من ورائها فى قُبُلها
خرج الولد أحول. قال فقال ابن عباس: كذبتْ يهودُ {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ
فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} يقول: اِيت الفرج من حيث شئت.
{
وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ
وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وقوله: {وَلاَ
تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ...}
يقول: لا
تجعلوا الحلف بالله مانعا معترِضا {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ
بَيْنَ النَّاسِ} يقول: لا يمتنعنَّ أحدُكم أن يَبرَّ ليمين إن حلف عليها، ولكن
لِيكفّرْ يمينه ويأت الذى هو خير.
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ }
وقوله: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ...}
فيه قولان.
يقال: هو ممَّا جرى فى الكلام من قولهم: لا والله، وبلى والله. والقول الآخر:
الأيمان أربع. فيمينان فيهما الكفَّارة والاستغفار، وهو قولك: والله لا أفعل، ثم
تفعل، ووالله لأفعلنَّ ثم لا تفعل. ففى هاتين الكفارة والاستغفار [لأن الفعل فيهما
مستقبل]. واللتان فيهما الاستغفار ولا كفَّارة فيهما قولك: والله ما فعلتُ وقد
فعلتَ، وقولك: والله لقد فعلتُ ولم تفعل. فيقال هاتان لَغْو؛ إذ لم تكن فيهما
كفَّارة. وكان القول الأوّل - وهو قول عائشة: إن اللغو ما يجرى فى الكلام على غير
عَقْد - أشبهَ بكلام العرب.
{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن
نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ }
وقوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ...}
التربّص إلى الأربعة.
وعليه القرّاء. ولو قيل فى مثله من الكلام: تَربُّصٌ أربعةَ أشهر كان صوابا كما
قرءوا "أو إِطعامٌ فى يومٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يتيما ذا مقربة" وكما قال {أَلَم نجعلِ
الأَرْض كِفَاتاً أحياء وأمواتا} والمعنى تكفتهم أحياء وأمواتا. ولو قيل فى مثله من
الكلام: كِفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ كان صوابا. ولو قيل: تربصٌ: أربعةُ أشهر كما يقال فى
الكلام: بينى وبينك سير طويل: شهر أو شهران؛ تجعل السير هو الشهر، والتربّص هو
الأربعة. ومثله {فشهادةُ أَحدِهِم أَرْبَعُ شهادات} وأَربعَ شهادات. ومثله {فجزاء
مِثل ما قتل من النعم} فمن رفع (مثل) فإنه أراد: فجزاؤه مثلُ ما قتل. قال: وكذلك
رأيتها فى مصحف عبد الله "فجزاؤه" بالهاء، ومن نصب (مثل) أراد: فعليه أن يَجزِى
مِثْلَ ما قَتَل من النَّعَم.
{فإن فاءوا} يقال: قد فاءوا يفيئون فَيْئا
وفُيُوءا. والفىء: أن يرجع إلى أهله فيجامع.
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ
أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
وقوله:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ...}
وفى قراءة عبدالله
"بردتهن".
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن
تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا
وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن
طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
}
وقوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ...}
وفى
قراءة عبدالله "إلا أَنْ تخافوا" فقرأها حمزة على هذا المعنى "ألا أَنْ يُخافا" ولا
يعجبنى ذلك. وقرأها بعض أهل المدينة كما قرأها حمزة. وهى فى قراءة أبّىً "إِلا أَنْ
يَظنَّا أَلاَّ يُقيِمَا حُدُودَ الله" والخوف والظنّ متقاربان فى كلام العرب. من
ذلك أن الرجل يقول: قد خرج عبدك بغير إذنك، فتقول أنت: قد ظننت ذاك، وخفت ذاك،
والمعنى واحد. وقال الشاعر:
أتانى كلامَ عن نُصَيب
بقوله * وما خفتُ يا سلاَّم أنك عائبى
وقال الآخر:
إذا مت فادفنّى إلى جَنْب
كَرْمة * تُرَوِّى عظامى بعد موتى عروقها
[ولا تدفنَنِّى فى الفلاة فإننى * أخاف
إذا ما متُّ أن لا أذوقُها]
والخوف فى هذا الموضع كالظنّ. رفع "أذوقُها" كما
رفعوا {وحَسِبُوا ألا تكون فِتنة} وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم "أُمِرتُ بالسواك
حتى خفت لأَدْرَدَنَّ" كما تقول: ظَنَّ ليذهبنَّ.
وما ما قال حمزة فإنه إن كان
أراد اعتبار قراءة عبدالله فلم يصبه - والله أعلم - لأن الخوف إنما وقع على (أن)
وحدها إذ قال: ألا يخافوا أن لا، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن؛
ألا ترى أن اسمهما فى الخوف مرفوع بما لم يسمَّ فاعله. فلو أراد ألاَّ يُخاف على
هذا ، أو يُخافا بذا، أو من ذا، فيكون على غير اعتبار قول عبدالله [كان] جائزا؛ كما
تقول للرجل: تُخاف لأنك خبيث، وبأنك، وعلى أنك....
وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} يقال كيف قال: فلا
جناح عليهما، وإنما الجناح - فيما يذهب إليه الناس - على الزوج لأنه أخَذ ما أعطَى؟
ففى ذلك وجهان:
أن يراد
الزوج دون المرأة، وإن كانا قد ذُكِرا جميعا؛ فى سورة الرحمن {يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلح لا من العذب.
ومنه "نَسِيَا حُوتَهُما" وأنما الناسى صاحب موسى وحده. ومثله فى الكلام أن تقول:
عندى دابَّتان أركبهما وأستقى عليهما، وإنما يُركب إحداهما ويُستقَى على الأخرى؛
وقد يمكن أن يكونا جميعا تُركبان ويُستقى عليهما. وهذا من سعة العربية التى يحتجّ
بسعتها. ومثله من كتاب الله {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جعل لكم الليل والنهار لِتسكنوا
فِيهِ ولتبتغوا مِن فضله} فيستقيم فى الكلام أن تقول: قد جعل الله لنا ليلا ونهارا
نتعيَّش فيهما وننام فيهما. وإن شئت ذهبت بالنوم إلى الليل وبالتعيُّش إلى
النهار.
والوجه الآخر أن يشتركا جميعا فى
ألاَّ يكون عليهما جُناح؛ إذ كانت تعطِى ما قد نُفى عن الزوج فيه الإثم، أُشركت فيه
لأنها إذا أعطت ما يُطرح فيه المأثم احتاجت هى إلى مثل ذلك. ومثله قول الله تبارك
وتعالى: {فمن تعجَّلَ فى يومين فلا إِثم عليهِ ومن تأخَّر فلا إِثم عليهِ} وإنما
موضع طرح الإثم فى المتعجِّل، فجعل للمتأخّر - وهو الذى لم يقصِّر - مثلُ ما جعل
على المقصِّر. ومثله فى الكلام قولك: إن تصدَّقت سِرّاً فحسن [وإن تصدّقت جهرا
فحسن].
وفى قوله {ومن تأخّر فلا إِثم عليهِ} وجه آخر؛ وذلك أن يريد: لا يقولنّ
هذا المتعجل للمتأخر: أنت مقصِّر، ولا المتأخّر للمتعجل مثل ذلك، فيكون قوله {فلا
إِثم عليهِ} أى فلا يؤثِّمَنَّ أحدُهما صاحبَه.
وقوله: {فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} يريد: فلا جناح عليهما فى أن يتراجعا، (أَن) فى موضع
نصب إذا نُزِعت الصفة، كأنك قلت: فلا جناح عليهما أن يراجعها، قال وكان الكسائىّ
يقول: موضعه خفض. قال الفرّاء: ولا أعرف ذلك.
وقوله: {إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا}
(أن) فى موضع نصب لوقوع الظنّ عليها.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً
وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ
الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
وقوله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً
لِّتَعْتَدُواْ...}
كان الرجل منهم إذا طلَّق امرأته فهو أحقّ برَجْعتها ما لم
تغتسل من الحَيْضة الثانية. وكان إذا أراد أن يُضِرّ بها تركها حتى تحيض الحيضة
الثالثة ثم يراجعها، ويفعل ذلك فى التطليقة الثانية. فتطويله لرجعتها هو الضِرار
بها.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
وقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ...}
يقول: فلا
تضيِّقوا عليهنّ أن يراجعن أزواجهنّ بمهر جديد إذا بانت إحداهنّ من زوجها، وكانت
هذه أخت معقِل، أرادت أن تزوّج زوجها الأوّل بعدما انقضت عدّتها فقال مَعْقِل لها:
وجهى من وجهِك حرام إن راجعتِه، فأنزل الله عز وجل: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن
يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}.
وقوله {ذالِكَ يُوعَظُ
بِهِ} ولم يقل: ذلكم، وكلاهما صواب. وإنما جاز أن يخاطب القوم "بذلك" لأنه حرف قد
كثر فى الكلام حتى تُوُهّم بالكاف أنها(من الحرف) وليست بخطاب. ومن قال "ذلك" جعل
الكاف منصوبة وإن خاطب امرأة أو امرأتين أو نسوة. ومن قال "ذلكم" أسقط التوهّم،
فقال إذا خاطب الواحد: ما فعل ذلكِ الرجل، وذالِكِ الرجلان، وأولئِك الرجال. [و]
يقاس على هذا ما ورد. ولا يجوز أن تقول فى سائر الأسماء إذا خاطبت إلا بإخراج
المخاطب فى الاثنين والجميع والمؤنَّث؛ كقولك للمرأة: غلامِك فعل ذلك؛ لا يجوز نصب
الكاف ولا توحيدها فى الغلام؛ لأن الكاف ههنا لا يتوهَّم أنها من الغلام. ويجوز أن
تقول: غلامِك فعل ذاكِ وذاكَ، على ما فسَّرت لك: من الذهاب بالكاف إلى أنها من
الاسم.
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ
بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ
مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن
تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ
آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
وقوله: {الرَّضَاعَةَ...}
القرّاء تقرأ بفتح
الراء. وزعم الكسائىّ أن من العرب من يقول: الرضاعة بالكسر. فإن كانت فهى بمنزلة
الوِكالة والوَكالة, والدِّلالة والدَّلالة, ومهرت الشىء مِهارة ومَهارة؛ والرَّضاع
والرِّضاع فيه مثل ذلك إلا أن فتح الراء أكثر، ومثله الحِصاد
والحَصاد.
وقوله {لاَ تُضَآرَّ
وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} يريد: لا تضارّرْ، وهو فى موضع جزم. والكسر فيه جائز "لا
تضارِّ والدة" ولا يجوز رفع الراء على نيَّة الجزم، ولكن نرفعه على الخبر. وأمّا
قوله {وإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يضرُّكم كَيْدُهُمْم شَيْئا} فقد يجوز أن يكون
رفعا على نيَّة الجزم؛ لأن الراء الأوّلى مرفوعة فى الأصل، فجاز رفع الثانية عليها،
ولم يجز (لا تضارُّ) بالرفع لأن الراء إن كانت تفاعَل فهى مفتوحة، وإن كانت تفاعِل
فهى مكسورة. فليس يأتيها الرفع إلا أن تكون فى معنى رفع. وقد قرأ عمر بن الخطَّاب
"ولا يضارَرْ كاتِب ولا شهيد".
ومعنى {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}
يقول: لا يُنزَعنّ ولدها منها وهى صحيحة لها لبن فيدفَع إلى غيرها. { وَلاَ
مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} يعنى الزوج. يقول: إذا أَرضعت صبيَّها وألِفها وعرفها
فلا تضارَّنَّ الزوجَ فى دفع ولده إليه.
{
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ
مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن
تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى
يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
}
وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً
يَتَرَبَّصْنَ...}
يقال: كيف صار الخبر عن
النساء ولا خبر للأزواج، وكان ينبغى أن يكون الخبر عن (الذين)؟ فذلك جائز إذا ذكِرت
أسماء ثم ذُكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر أن تترك الأوّل ويكون الخبر عن
المضاف إليه. فهذا من ذلك؛ لأن المعنى - والله أعلم - إنما أريد به: ومن مات عنها
زوجها تربصتْ. فترِك الأوّل بلا خبر، وقُصِد الثانى؛ لأن فيه الخبر والمعنى. قال:
وأنشدنى بعضهم:
بنى أسَد إنّ ابن قيس وقتلَه * بغير دم دارُ المذَلَّة
حُلَّت
فألقى (ابن قيس) وأخبر عن قتله أنه ذُلّ. ومثله:
لعلِّىَ إن مالت بِىَ
الرِّيح مَيْلة * على ابن أبى ذِبَّان أن يتندَّما
فقال: لعلِّى ثم قال: أن
يتندما؛ لأن المعنى: لعلَّ ابن أبى ذبَّان أن يتندّم إِن مالت بى الريح. ومثله
قوله: {والذِين يتوفَّوْن مِنكم ويذرون أَزواجا وصِيَّةً لأزواجِهِم} إلا أن الهاء
من قوله {وصِيَّة لأزواجِهِم} رجعتْ على (الذين) فكان الإعراب فيها أبين؛ لأن
العائد من الذِّكْر قد يكون خبرا؛ كقولك: عبدالله ضربته.
وقال: {وَعَشْراً} ولم
يقل: "عشرة" وذلك ان العرب إذا أبهمت العدد من الليالى والأيام غلَّبوا عليه
الليالىَ حتى إنهم ليقولون: قد صمنا عشرا من شهر رمضان لكثرة تغليهم الليالى على
الأيام. فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء، والدُّكْران بالهاء؛
كما قال الله تبارك وتعالى: {سَخَّرها عليهِم سبع ليالٍ وثمانية أَيامٍ حُسُوما}
فأدخل الهاء فى الأيام حين ظهرت، ولم تدخل فى الليالى حين ظهرن. وإن جعلت العدد غير
متّصل بالأيام كما يتّصل الخافض بما بعده غلَّبت الليالىَ أيضا على الأيَّام. فإن
اختلطا فكانت ليالى وأيام غلَّبت التأنيث، فقلت: مضى له سبع، ثم تقول بعد: أيام
فيها بَرْد شديد. وأمّا المحتلِط فقول الشاعر:
أقامت ثلاثا بين يوم وليلة * وكان
النكير أن تضِيف وتَجْارا
فقال: ثلاثا وفيها أيام.
وأنت تقول: عندى ثلاثة بين غلام وجارية، ولا يجوز هاهنا ثلاث؛ لأن الليالى من
الأيام تغِلب الأيام. ومثل ذلك فى الكلام أن تقول: عندى عَشْر من الإبل وإن عنيت
أجمالا، وعشر من الغنم والبقر. وكل جمع كان واحدته بالهاء وجمعه بطرح الهاء، مثل
البقر واحدته بقرة، فتقول: عندى عشر من البقر وإن نويت ذُكْرانا. فإذا اختلطا وكان
المفسِّرمن النوعين قبل صاحبة أجريت العدد فقلت: عندى خمس عشرة ناقة وجملا, فأنَّثت
لأنك بدأت بالناقة فغلَّبتها. وإن بدأت بالجمل قلت: عندى خمسة عشر جملا وناقة. فإن
قلت: بين ناقة وجمل فلم تكن مفسَّرة غلَّبت التأنيث، ولم تبالِ أبدأت بالجَملَ أو
بالناقة؛ فقلت: عندى خمس عشرة بين جمل وناقة. ولا يجوز أن تقول: عندى خمس عشرة أمَة
وعبدا، ولا بين أمة وعبد إلاّ بالتذكير؛ لأن الذُكْران من غير ما ذكَرت لك لا
يُجتزأ منها بالإناث، ولأن الذَكَر منها موسوم بغير سِمَة الأنثى، والغنم والبقر
يقع على ذَكَرها وأنثاها شاة وبقرة، فيجوز تأنيث المذكَّر لهذه الهاء التى لزِمت
المذكَّر والمؤنَّث.
وقوله {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِِ} الخِطبة مصدر بمنزلة
الخِطْب، وهو مثل قولك: إنه لحسن القِعدة والجِلسة؛ يريد القعود والجلوس، والخُطْبة
مثل الرسالة التى لها أوّل وآخِر، قال: سمعت بعض العرب [يقول]: اللهم ارفع عنا هذه
الضُغْطة، كأنه ذهب إلى أن لها أوّلا وآخِرا، ولو أراد مرّة لقال: الضَغْطة، ولو
أراد الفعل لقال الضِغْطة؛ كما قال المِشْية. وسمعت آخَر يقول: غلبنى [فلان] على
قُطْعةٍ لى من أرضى؛ يريد أرضا مفروزة مثل القِطعة لم تُقسم، فإذا أردت أنها قطعة
من شىء [قطع منه] قلت: قِطْعة.
وقوله: { أَوْ أَكْنَنتُمْ} للعرب فى اكننت الشىء
إذا سترته لغتان: كننته وأكننته، قال: وأنشدونى قول الشاعر:
ثلاثٌ من ثلاثِ
قُدَامياتٍ * من اللاتى تَكُنّ من الصَقِيع
وبعضهم [يرويه] تُكِنّ من
أكننت. وأمّا قوله: "لؤلؤ مكنون" و "بَيْض مكنون" فكأنه مذهب للشىء يصان، وإحداهما
قريبة من الأخرى.
وقوله: {وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } يقول: لا
يصفنَّ أحدكم نفسه فى عِدَّتها بالرغبة فى النكاح والإكثار منه. حدّثنا محمد بن
الجهم قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى حِبَّان عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس
أنه قال: السرُّ فى هذا الموضع النكاح. وأنشد عنه بيت امرئ القيس:
ألا زعمت
بَسْباسة اليوم أننى * كبِرتُ وأَلاَّ يشهدَ السِرَّ أَمثالى
قال الفرّاء: ويرى
أنه مما كنى الله عنه قال: "أو جاء احد منكم من الغائط".
{ لاَّ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ }
قوله:
{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ...}
بالرفع. ولو نُصب كان صوابا على تكرير الفعل على النيَّة، أى ليعط
الموسع قدره، والمقتر قدره. وهو مِثل قول العربِ: أخذت صدقاتِهم، لكل أربعين شاةً
شاةُ؛ ولو نصبت الشاة الآخِرة كان صوابا.
وقوله {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} منصوب
خارجا من القَدَر؛ لأنه نكرة والقدر معرفة. وإن شئت كان خارجا من قوله
"وَمَتِّعُوهُنَّ" مَتَاعاً ومُتْعة.
فأمَّا {حَقّاً} فإنه
نَصْب من نيّة الخبر لا أنه من نعت المتاع. وهو كقولك فى الكلام: عبدُالله فى الدار
حقاً. إنما نصب الحق من نيَّة كلام المخبِر؛ كأنه قال: أخبركم خبرا حقا، وبذلك حقا؛
وقبيح أن تجعله تابعا للمعرفات أو للنكرات؛ لأن الحق والباطل لا يكونان فى أنفُس
الأسماء؛ إنما ياتى بالأخبار. من ذلك أن تقول: لى عليك المال حقّا، وقبيح أن تقول:
لى عليك المال الحق، أو: لى عليك مال حقّ، إلا أن تذهب به إلى أنه حقّ لى عليك،
فتخرجَه مُخرج المال لا على مذهب الخبر.
وكل ما كان فى القرآن مما
فيه من نكرات الحق أو معرفته أو ما كان فى معنى الحق فوجهُ الكلام فيه النصب؛ مثل
قوله "وَعْدَ الحقِ" و "وعد الصدق" ومثل قوله {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُم جَمِيعا وَعْدَ
اللّهِ حقاً} هذا على تفسير الأوّل. وأمّا قوله {هنالِك الوَلاية لِلّه الحقِّ}
فالنصب فى الحقّ جائز؛ يريد حقّا، أى أخبركم أن ذلك حقّ. وإن شئت خفضت الحقّ، تجعله
من صفة الله تبارك وتعالى. وإن شئت رفعته فتجعلُه من صفة الوَلاية. وكذلك قوله
{ورُدُّوا إلى اللّهِ مَوْلاَهُم الحقّ} تجعله من صفة الله عز وجلَّ. ولو نصبت كان
صوابا، ولو رُفع على نيَّة الاستئناف كان صوابا؛ كما قال {الْحَقُّ مِن ربَّك فَلاَ
تَكُونَنَّ مِن المُمْتَرِين} وأنت قائل إذا سمعت رجلا يحدث: [حقّا أىْ] قلت حقا،
والحقُّ، أى ذلك الحقُّ. وأمّا قوله فى ص {قَالَ فالْحقُّ والحقَّ أقول} فإن
الفرّاء قد رفعتِ الأوّل ونصبته. وروى عن مجاهد وابن عباس أنهما رفعا الأوّل وقالا
تفسيره: الحقُّ منى، وأقول الحق؛ فينصبان الثانى بـ "أقول". ونصبهما جميعا كثير
منهم؛ فجعلوا الأوّل على معنى: والحقِّ "لأملأَنَّ جَهَنَّمَ" وينصب الثانى بوقوع
القول عليه. وقوله {ذلِكَ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحقّ} رفعه حمزة والكسائىّ،
وجعلا الحق هو الله تبارك وتعالى، لأنها فى حرف عبدالله " ذَلِكَ عِيسَى بْنُ
مَرْيَمَ قالَ اللّهِ" كقولك: كلمةَ الله، فيجعلون (قال) بمنزلة القول؛ كما قالوا:
العاب والعَيْب. وقد نصبه قوم يريدون: ذلك عيسى بن مريم قولا حقّا.
{ وَإِن
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ
تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
}
وقوله: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن
تَمَسُّوهُنَّ...}
تُماسُّوهن وتَمَسُّوهن واحد، وهو الجماع؛ المماسَّة
والمسُّ.
وإنما قال {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} بالنون لأنه فعل النسوة، وفعل النسوة
بالنون فى كل حال. يقال: هنَّ يضربن، ولم يضربن، ولن يضربن؛ لأنك لو أسقطت النون
منهن للنصب أو الجزم لم يَستَبِنْ لهنّ تأنيث. وإنّما قالت العرب "لن يعفُوا"
للقوم، و"لن يعفُوَا" للرجلين لانهم زادوا للاثنين فى الفعل ألفا ونونا، فإذا
أسقطوا نون الاثنين للجزم أو للنصب دلَّت الألفُ على الاثنين. وكذلك واو يفعلون
تدلّ على الجمع إذا أُسقِطت النون جزما أو نصبا. {أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو الزوج.
{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ
الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ }
وقوله: {حَافِظُواْ عَلَى
الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى...}
فى قراءة عبدالله "وعلى الصلاة الوسطى"
فلذلك آثرت القرَّاء الخفض، ولو نُصِب على الحثّ عليها بفعل مضمر لكان وجها حسنا.
وهو كقولك فى الكلام: عليك بقرابتك والأمّ، فخصَّها بالبرّ.
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً
وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ
خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن
مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }