وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ...}
يقال: وعلىالذين يطيقون
الصوم ولا يصومون أن يطعم مِسكينا مكان كل يومٍ يفطره. ويقال: على الذين يطيقونه
الفِدية يريد الفِداء، ثم نسخ هذا فقال تبارك وتعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ
لَّكُمْ} من الإطعام.
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
}
وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ...}
رَفْع مستأنَف أى: ولكم "شهر رمضان"
{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقرأ الحسن نصبا علىالتكرير "وان تصوموا" شهر
رمضان "خير لكم" والرفع أجود. وقد تكون نصبا من قوله "كتِب عليكم الصيام" شهرَ
رمضان" توقع الصِيام عليه: أن تصوموا شهر رمضان.
وقوله {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} دليل على نَسْخ الإطعام. يقول: من كان سالما ليس بمريض أو
مقيما ليس بمسافر فليصم {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} قضَى ذلك.
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فى الإفطار فى السفر {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} الصومَ فيه.
وقوله: {وَلِتُكْمِلُواْ
الْعِدَّةَ...}
فى قضاء ما أفطرتم. وهذه
اللام فى قوله "وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ" لام كَىْ لو ألْقِيت كان صوابا. والعرب
تدخلها فى كلامها على إضمار فعلٍ بعدها. ولا تكون شرطا للفعل الذى قبلها وفيها
الواو. ألا ترى أنك تقول: جئتك لتحسن إلىّ، ولا تقول جئتك ولتحسن إلىّ. فإذا قلته
فأنت تريد: ولتحسن إلىّ جئتك. وهو فى القرآن كثير. منه قوله {ولِتصغى إليهِ أفئدة
الذِين لا يؤمنون بالآخرة} ومنه قوله {وكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْموُقِنِينَ} لو لم تكن فيه الواو كان
شرطا، على قولك: أريناه مَلَكُوت السموات ليكون. فإذا كانت الواو فيها فلها فعل
مضمر بعدها {ولِيكون مِن الموقنين} أريناه. ومنه (فى غير) اللام قوله {إِنّا
زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} ثم قال "وحِفْظاً" لولم
تكنِ الواو كان الحفظ منصوبا بـ "زينا". فإذا كانت فيه الواو وليس قبله شىء يُنْسَق
عليه فهو دليل على أنه منصوب بفعلٍ مضمرٍ بعد الحفظ؛ كقولك فى الكلام: قد أتاك أخوك
ومكرِما لك، فإنما ينصب المكرم على أن تضمر أتاك بعده.
{ وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
وقوله:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...}
قال المشركون للنبىّ
صلى الله عليه وسلم: كيف يكون ربُّنا قريبا يسمع دعاءنا، وأنت تخبرنا أن بيننا
وبينه سبع سمواتِ غِلظَ كلّ سماءٍ مسيرة خمسمائة عامٍ وبينهما مِثل ذلك؟ فأنزل الله
تبارك وتعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} أسمع ما
يَدْعُون {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى} يقال: إنها التلبية.
{ أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ
وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ
أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ
أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
}
وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ...}
وفى قراءة عبدالله "فلا رُفُوث ولا
فسوق" وهو الجِماع فيما ذكروا؛ رفعته بـ "أحل لكم"؛ لأنك لم تسمّ فاعله.
وقوله:
{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ...}
يقول: عند الرُّخْصة التى نزلت ولم تكن قبل ذلك لهم.
وقوله {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} يقال: الولد، ويقال: "اتبِعوا" بالعيِن. وسئل عنهما ابن عباس
فقال: سواء.
وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الأَسْوَدِ...}
فقال رجل للنبىّ صلىالله عليه وسلم: أهو الخيط الأبيض
والخيط الأسود؟ فقال له النبىّ صلى الله عليه وسلم: "إنك لعريض القفا؛ هو الليل من
النهار".
وقوله: {وَتُدْلُوا بِهَا
إِلىَ الْحُكَّامِ} وفى قراءة أبىّ "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بِالباطِلِ ولا تدلوا
بِها إِلَى الحُكَّامِ" فهذا مِثْل قوله {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} معناه: ولا تكتموا. وإن شِئت جعلته إذا ألقيت منه "لا"
نَصْبا على الصرفِ؛كما تقول: لا تسْرِقْ وتَصَدَّقَ. معناه: لا تجمع بين هذين كذا
وكذا؛ وقال الشاعر:
لا تنه عن خُلُقٍ وتأتِىَ مِثله * عارٌ عليك إذا فعلتَ
عظِيم
والجزم فى هذا البيت جائز أى لا تفعلن واحا من هذين.
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا
وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الأَهِلَّةِ...}
سئل النبىّ صلى الله عليه وسلم عن نقصان القمر وزيادته ما هو؟
فأنزل الله تبارك وتعالى: ذلك لمواقيت حجكم وعمرتكم وحلّ ديونكم وانقضاء عِدَد
نسائكم.
وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا
وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا...}
وذلك أن أهل الجاهلية -
ألا قريشا ومن ولدته قريش من العرب - كان الرجل منهم إذا أحرم فى غير أشهر الحج فى
بيت مَدَرٍ أو شعَرٍ أو خِباءٍ نقب فى بيته نَقْبا مِن مُؤَخَّره فخرج منه ودخل ولم
يخرج من الباب، وإن كان من أهل الأخبِية والفساطِيطِ خرج مِن مُؤَخَّره ودخل منه.
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرِم ورجل محرم يراه، دخل من باب حائطٍ
فاتّبعه ذلك الرجل، فقال له: تنحّ عنى. قال: ولِم؟ قال دخلتَ من الباب وانت
مُحْرِم. قال: إنى قد رضيت بسنَّتك وهَدْيك. قال له النبىّ صلى الله عليه وسلم:
"إِنى أحْمَس" قال: فإذا كنت أحمس فإنى أحمس. فوفّق الله الرجل، فأنزل الله تبارك
وتعالى {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ}.
{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ
حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ }
وقوله: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ...}
فهذا وجه قد قرأتْ به العامَّة. وقرأ أصحاب عبدالله "ولا
تَقْتلوهم عِند المسجِد الحرام حتى يَقْتلوكم فيه، فإن قَتَلوكم فاقتلوهم" والمعنى
ها هنا: فإن بدءوكم بالقتل فاقتلوهم. والعرب تقول: قد قُتِل بنو فلان إذا قُتِل
منهم الواحد. فعلى هذا قراءة أصحاب عبدالله. وكلّ حسن.
وقوله: {فإنِ انْتَهَوْا}
فلم يبدءوكم {فلا عُدْوَانَ} على الذين انتهوا، إنما العُدْوان على من ظَلَم: على
من بدأكم ولم ينته.
فإن قال قائل: أرأيت قوله
{فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالمِينَ} أعدوانٌ هو وقد أباحه الله لهم؟ قلنا:
ليس بعُدْوان فى المعنى، إنما هو لفظ على مثل ما سبق قبله؛ ألا ترى أنه قال:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ} فالعدوان من المشركين فى اللفظ ظلم فى المعنى، والعدوان الذى أباحه
الله وأمر به المسلمين إنما هو قِصَاص. فلا يكون القصاص ظلما، وإن كان لفظه واحدا.
ومثله قول الله تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهُا} وليست مِن
الله على مثل معناها من المسىء؛ لأنها جزاء.
{
وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن
صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ
عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
}
وقوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ...}
وفى قراءة
عبدالله "وأَتِمُّوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ إلى البيت لِلّهِ" فلو قرأ قارئ
"والعمرةُ لله" فرفع العمرة لأن المعتمر إذا أتى البيت فطاف به وبين الصفا والمروة
حلّ من عمرته. والحج يأتى فيه عرفاتٍ وجميعَ المناسك؛ وذلك قوله {وَأَتِمُّواْ
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ} يقول: أتِموا العمرة إلى البيت فى الحج إلى أقصى
مناسكه.
{فَإنْ أُحْصِرْتُمْ}
العرب تقول للذى يمنعه مِن الوصول إلى إتمامِ حَجّه أو عمرته خوف أو مرض، وكل ما لم
يكن مقهورا كالحَبْس والسِّجْن (يقال للمريض): قد أُحْصر، وفى الحبس والقهر: قد
حُصِر. فهذا فَرْق بينِهما. ولو نويت فى قهر السلطان أنها علَّة مانعة ولم تذهب إلى
فعل الفاعل جاز لك أن تقول: قد أُحصر الرجل. ولو قلت فى المرض وشبهه: إن المرض قد
حصره أو الخوف، جاز أن تقول: حُصِرتم. وقوله "وسَيِّدا وحصورا" [يقال] إنه المحصَر
عن النساء؛ لأنها علَّة وليس بمحبوسٍ. فعلى هذا فابنِ.
وقوله: {فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ...}
"ما" فى موضع رفع؛ لأن أكثر ما جاء من أشباهه فى
القرآن مرفوع. ولو نصبت على قولك: أهدوا "ما استيسر".
وتفسير الهدْى فى هذا
الموضع بَدَنة أو بقرة أو شاة.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} الهَدْىَ صام ثلاثة أيامٍ
يكون آخِرها يوم عرفة، واليومان فى العَشْر، فأمّا السبعة فيصومها إذا رجع فى
طريقه، وإن شاء إذا وصل إلى أهله و "السبعة" فيها الخفض على الإتباع للثلاثة. وإن
نصبتها فجائز على فعل مجدّد؛ كما تقول فى الكلام: لا بدّ من لقاء أخيك وزيدٍ
وزيدا.
وقوله: {ذالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يقول: ذلك لمن كان من الغُرَباء من غير أهل
مكَّة، فأمّا أهل مكة فليس ذلك عليهم. و "ذلِك" فى موضع رفع. وعلى تصلح فى موضع
اللام؛ أى ذلك على الغرباء.
وقوله:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} معناه: وقتُ الحج هذه الأشهر. فهى
وإن كانت "فى" تصلح فيها فلا يقال إلاّ بالرفع، كذلك كلام العرب، يقولون: البَردْ
شهران، والحَرّ شهران، لا ينصبون؛ لأنه مقدار الحج. ومثله قوله: {ولِسُلَيْمَانَ
الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} ولو كانت الأشهر أو الشهر معروفة
على هذا المعنى لصلح فيه النصب. ووجه الكلام الرفع؛ لأن الاسم إذا كان فى معنى
صِفةٍ أو محلّ قوِى إذا أسند إلى شىء؛ ألا ترى أن العرب يقولون: هو رجل دونَك وهو
رجل دونٌ، فيرفعون إذا أفردوا، وينصبون إذا أضافوا. ومن كلامهم المسلمون جانِبٌ،
والكفَّار جانب، فإذا قالوا: المسلمون جانِبَ صاحبِهم نصبوا. وذلك أن الصاحب يدلّ
على محلّ كما تقول: نحوَ صاحبهم، وقُرْبَ صاحبهم. فإذا سقط الصاحب لم تجده محلاّ
تقيده قرب شىء أو بعده.
والأشهر المعلومات شوّالٌ وذو القَعْدة وعَشْر من ذى
الحجة. والأشهر الحُرُم المحرَّم ورجب وذو القعدة وذو الحِجة. وإنما جاز أن يقال له
أشهر وإنما هما شهران وعشر من ثالثٍ؛ لأن العرب إذا كان الوقت لشىء يكون فيه الحج
وشِبهه جعلوه فى التسمية للثلاثة والاثنين، كما قال الله تبارك وتعالى:
{وَاذْكُرُوا اللّهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ}
وإنما يتعجَّل فى يومٍ ونِصف، وكذلك هو فى اليوم الثالث من أيام التشريق وليس منها
شىء تامّ, وكذلك تقول العرب: له اليومَ يومان منذ لم أره، وإنما هو يوم وبعضُ آخرَ،
وهذا ليس بجائزٍ فى غير المواقيت، لأن العرب قد تفعل الفِعْل فى أقلَّ من الساعة،
ثم يوقعونه على اليوم وعلى العام والليالى والأيام، فيقال: زرته العام، وأتيتك
اليوم، وقُتل فلان ليالىَ الحجَّاجُ أمير، لأنه لا يراد أوّل الوقت وآخِره، فلم
يذهب به على معنى العدد كله، وإنما يراد به (إذ ذاك
الحين).
وأما قوله: {فَلاَ رَفَثَ
وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ} يقال: إن الرفث الجماع، والفسوق السِباب، والجدال
المماراة {فِى الْحَجِّ} فالقراء على نصب ذلك كله بالتبرئة إلا مجاهدا فإنه رفع
الرفث والفسوق ونصب الجدال. وكلّ ذلك جائز. فمن نصب أتبع آخِر الكلام أوّلَه، ومن
رفع بعضا ونصب بعضا فلان التبرئة فيها وجهان: الرفع بالنون، والنصب بحذف النون. ولو
نصب الفسوق والجدال بالنون لجاز ذلك فى غير القرآن؛ لأن العرب إذا بدأت بالتبرئة
فنصبوها لم تنصب بنونٍ، فإذا عطفوا عليها بـ "لا" كان فيها وجهانِ، إن شئت جعلت
"لا" معلَّقة يجوز حذفها فنصبت على هذه النية بالنون؛ لأن "لا" فى معنى صِلةٍ، وإن
نويت بها الابتداء كانت كصاحبتها، ولم تكن معلَّقة فتنصبَ بلا نونٍ؛ قال فى ذلك
الشاعر:
رأت إبلى برمل جَدُودَ أ[نْ] لا * مَقِيلَ لها ولا شِرْباً
نَقُوعا
فنوَّن فى الشرب، ونوى بـ "لا" الحذف؛ كما قال الآخر:
فلا أبَ وابنا
مِثلَُ مروان وابنِهِ * إذا هو بالمجدِ ارتدى وتأزّرا
وهو فى مذهبهِ بمنزلة
المدعوّ تقول: يا عمرو والصَّلْتَ أقبِلا. فتجعل الصلت تابعا لعمرٍو وفيه الألف
واللام؛ لأنك نويت به أن يتبعه بلا نيَّة "يا" فى الألف واللام. فإن نويتها قلت: يا
زيد ويأيها الصَّلْتُ أقبِلاَ. فإن حذفت "يأيها" وأنت تريدها نصبت؛ كقول الله عز
وجل {يَا جِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ} نصب الطير على جهتين: على نيَّة
النداء المجدَّد له إذ لم يستقم دعاؤه بما دعيت به الجبال، وإن شئت أوقعت عليه
فعلا: وسخرنا له "الطير" فتكون النية على سخرنا. فهو فى ذلك متبع؛ كقول
الشاعر:
ورأيت زوجَكِ فى الوغى * متقلِّدا سيفا ورمحا
وإن شئت رفعت بعض
التبرئة ونصبت بعضا، وليس مِن قراءة القراء ولكنه يأتى فى الأشعار؛ قال
أميَّة:
فلا لَغْوٌ ولا تأْثِيمَ فِيها * وما فاهوا به لَهُمُ مقيم
وقال
الآخَر:
ذاكم - وجَدِّكم -
الصَّغَار بِعينهِ * لا أمَّ لِى إِن كان ذاك ولا أب
وقبله:
وإِذا تكونُ
شدِيدةٌ أُدعَى لها * وإِذا يحاس الحَيْس يدْعى جُنْدب
المعاني الواردة في آيات
سورة ( البقرة )
{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ
كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ
رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }
وقوله:
{فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً...}
كانِت
العرب إذا حجُّوا فى جاهلَّيتهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فذكر أحدُهم
أباه بأحسنِ أفاعِيلهِ: اللهمَّ كان يَصِل الرَحِم، ويَقْرِى الضيف. فأنزل الله
تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ
ذِكْراً} فأنا الذى فعلت ذلك بِكم وبِهِم.
وقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ
رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا...}
كان أهل الجاهلية يسألون المال والإبل
والغنم فأنزل الله: "مِنهم من يسأل الدنيا فليس له فى الآخرة خَلاَق" يعنى
نصيبا.
{ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ
اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
}
وقوله: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ...}
هى العَشْر
[و] المعلومات: أيام التشريق كلها، يوم النحر وثلاثة أيام التشريق. فمِن المفسرين
من يجعل المعدوداتِ أيام التشريق أيضا، وأما المعلومات فإنهم يجعلونها يوم النحر
ويومين من أيام التشريق؛ لأن الذبح إنما يكون فى هذه الثلاثة الأيام، ومِنهم من
يجعل الذبح فى آخر أيام التشريق فيقع عليها المعدودات والمعلومات فلا تدخل فيها
العشر.