وقوله: {لِمَنِ
اتَّقَى...}
يقول: قتل الصيدِ فى الحَرَم.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ
قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }
وقوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي
قَلْبِهِ...}
كان ذلك رجلا يُعجب النبى صلى الله عليه وسلم حديثُه، ويُعلمه أنه
معه ويحلف على ذلك فيقول: (الله يعلم). فذلك قوله "ويشهِد الله" أى ويستشهِد الله.
وقد تقرأ "ويَشْهَدُ اللّهُ" رفع "على ما فِى قلبِهِ".
وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ
الْخِصَامِ...}
يقال للرجل: هو ألدّ من قوم لُدّ، والمرأة لدَّاء ونسوة لُدّ،
وقال الشاعر:
اللدُّ أقرانُ الرجالِ اللُدِّ * ثم أُرَدِّى بِهِمُ مَنْ
يَرْدِى
ويقال: ما كنتَ أَلَدَّ فقد لَدِدْتَ، وأنت تَلَدّ. فإذا غلبت الرجل فى
الخصومة (قلت: لدَدته) فأنا ألُدّه لَدّاً.
وقول الله تبارك وتعالى: {وَيُهْلِكَ
الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} نُصِبت، ومنهم من يرفع "ويهلكُ" رَفَع لا يردّه على
"لِيفسِد" ولكنه يجعله مردودا على قوله: {ومِن الناسِ من يعجِبك قوله...ويهلِك}
والوجه الأوّل أحسن.
{ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ }
وقوله:
{وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ...}
مِن العرب من يقول: فسد الشىءُ فسودا، مثل
قولهم: ذهب ذُهوبا وذهابا، وكسد كُسودا وكسادا.
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ...}
أى لا تتبعوا آثاره؛ فإنها معصية.
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ
أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ
الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ }
وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ
أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلائِكَةُ...}
رَفْع مردود على (الله) تبارك وتعالى، وقد خفضها بعض أهلِ
المدينة. يريد "فى ظللٍ مِن الغمامِ وفى الملائكةِ". والرفع أجود؛ لأنها فى قراءة
عبدالله "هل ينظرون إِلا أن يأتيهم الله والملائكة فى ظللٍ من الغمامِ".
المعاني
الواردة في آيات سورة ( البقرة )
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم
مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ
فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقوله: {سَلْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ...}
لا تُهمز فى شىءٍ من القرآن؛ لأنها لو همزت كانت
"اسْأَل" بألفٍ. وإنما (ترك همزها) فى الأمر خاصَّة؛ لأنها كثيرة الدَّوْر فى
الكلام؛ فلذلك ترك همزه كما قالوا: كُلْ، وخُذْ، فلم يهمِزوا فى الأمر، وهمزوه فى
النهى وما سِواه. وقد تهمزه العرب. فأمَّا فى القرآن فقد جاء بترك الهمز. وكان حمزة
الزَّيات يهمز الأمر إذا كانت فيه الفاء أو الواو؛ مثل قوله: {واسْأَلِ الْقَرْيَةَ
الّتِى كُنَّا فِيهَا} ومثل قوله: {فاسْأَلِ الّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} ولست
أشتهى ذلك؛ لأنها لو كانت مهموزة لكُتبت فيها الألف كما كتبوها فى قوله {فاضْرِبْ
لَهُمْ طَرِيقاً}, {واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً} بالألف.
وقوله: {كَمْ
آتَيْنَاهُم...}
معناه: جئناهم به [من آية]. والعرب تقول: أتيتك بآيةٍ، فإذا
ألقَوُا الباء قالوا: آتيتك آية؛ كما جاء فى الكهف "آتِنا غداءنا" والمعنى: ايتنا
بغدائِنا.
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن
يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
وقوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا...}
ولم يقل "زُينت" وذلك جائز، وإنّما ذُكِّر الفعل والاسم مؤنث؛
لأنه مشتّق من فعل فى مذهب مصدر. فمن أَنَّث أخرج الكلام على اللفظ، ومن ذكَّر ذهب
إلى تذكير المصدر. ومثله {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهَى} و
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} ، {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
الصَّيْحَةُ} على ما فسَّرت لك. فأمَّا فى الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكِّر
فعلَ مؤنَّثٍ إلا فى الشعر لضرورته. وقد يكون الاسم غير مخلوقٍ من فِعلٍ، ويكون فيه
معنى تأنيثٍ وهو مذكَّر فيجوز فيه تأنيث الفِعل وتذكيره على اللفظ مرَّة وعلى
المعنى مرَّة؛ من ذلك قوله عزَّ وجلَّ {وكذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَق} ولم
يقل "كَذَّبَتْ" ولو قِيلت لكان صوابا؛ كما قال {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} و
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} ذهب إلى تأنيثِ الأُمّة، ومثله من الكلام فى الشعر كثير؛
منه قول الشاعر:
فإن كِلاباً هذهِ عَشْرُ أَبطنٍ * وأَنت برِئ مِن قبائِلِها
العَشْرِ
وكان ينبغى أن يقول: عشرة أبطنٍ؛ لأن البطن ذَكَر، ولكنه فى هذا الموضع
فى معنى قبيلة, فأنّث لتأنيث القبيلة فى المعنى. وكذلك قول الآخر:
وقائِع فى
مُضَرٍ تِسعة * وفى وائلٍ كانتِ العاشِره
فقال: تِسعة، وكان ينبغى
له أن يقول: تِسع؛ لأن الوقعة أنثى، ولكنه ذهب إلى الأيام؛ لأن العرب تقول فى معنى
الوقائع: الأيام؛ فيقال هو عالم بأيَّام العرب، يريد وقائعها. فأمّا قول الله تبارك
وتعالى: {وجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} فإنه أريد به - والله أعلم -: جُمِع
الضياءان. وليس قولهم: إنما ذكّر فِعْل الشمس لأن الوقوف لا يحسن فى الشمس حتى يكون
معها القمر بشىءٍ، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا: الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير
جائزٍ، وإن شئت ذكَّرته؛ لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدلّ على التأنيث، والعرب
ربما ذكَّرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال الفرّاء: أنشدنى
بعضهم:
فهِى أَحوى مِن الربعِىّ خاذِلة * والعَين بالإثمد الحارِىّ مكحول
ولم
يقل: مكحولة والعين أنثى للعلة التى أنبأتك بها. قال: وأنشدنى بعضهم:
فلا
مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها * ولا أَرضَ أَبْقَل إبقالها
قال: وأنشدنى يونس -
يعنى النحوىّ البصرىّ - عن العرب قول الأعشى:
إِلى رجلٍ مِنهم أَسِيفٍ كأنما *
يضمّ إلى كَشْحَيهِ كفَّا مخضبا
وأمَّا قوله: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} فإن
شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين فلمَّا لم يكن فيها هاء مما يدلّ على التأنيث
ذكّر فعلها كما فعل بالعين والأرض فى البيتين. ومِن العرب من يذكّر السماء؛ لأنه
جَمْع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال: وأنشدنى بعضهم:
فلو رَفَع السماءُ إليهِ
قوما * لحِقنا بالسماءِ مع السحابِ
فإن قال قائل:
أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادِر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها؟
قلت: ذلك قبيح وهو جائز. وإنما قبح لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فيه مكنّى من
الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكَّرا قبله مؤنث، والذين استجازوا ذلك قالوا: يُذْهب
به إلى المعنى، وهو فى التقديم والتأخير سواء؛ قال الشاعر:
فإن تعهدِى لامرِئ
لِمَّةَ * فإن الحوادِث أَزْرَى بِها
ولم يقل: أزرين بها ولا
أزْرت بها. والحوادث جَمْع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحَدَثانِ. وكذلك قال
الآخر:
هنِيئا لِسعدٍ ما اقتضى بعد وقعتِى * بِناقةِ سعدٍ والعشِيَّةُ
باردُ
كأن العشية فى معنى العشِىّ؛ ألا ترى قول الله {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيّاً} وقال الآخر:
إن السماحة والشجاعة ضُمِّنا * قبرا بِمَرْوَ على
الطرِيقِ الواضح
ولم يقل: ضُمنتا، والسماحة والشجاعة مؤنثتان لِلهاءِ التى
فيهما. قال: فهل يجوز أن تذهب بالحَدَثانِ إلى الحوادث فتؤنّث فعله قبله فتقول
أهلكتنا الحَدَثانُ؟ قلت نعم؛ أنشدنى الكسائى:
ألا هَلَك الشِهاب المستنير *
ومِدْرَهُنا الكَمىُّ إذا نغِير
وحَمَّال المئِين إذا ألمّت * بنا الحَدَثانُ
والأَنفِ النَصُور
فهذا كافٍ مِما يُحتاج إليه من هذا النوع. وأما قوله: {وإِنّ
لكم فِى الأنعامِ لعِبرة نسقِيكم مِما فِى بطونِهِ} ولم يقل "بطونِها" والأنعام هى
مؤنثة؛ لأنه ذهب به إلى النَعَم والنَعَم ذَكَر وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها
لأن الواحد يأتى فى المعنى على معنى الجمع؛ كما قال الشاعر:
إذا رأيت أنْجُما
مِن الأَسَدْ * جَبْهتَهُ أو الخَرَاتَ والكَتَدْ
بال سُهَيلٌ فى الفَضِيخِ
ففسدْ * وطاب أَلبانُ الِلقاحِ فبردْ
ألا ترى أن اللبن جمع يكفى مِن الألبان.
وقد كان الكسائىّ يذهب بتذكيرِ الأنعام إلى مثلِ قول الشاعر:
ولا تَذْهَبْن
عيناكِ فى كل شَرْمَح * طُوَالٍ فإن الأقصرين أمازِرُهْ
ولم يقل: أمازِرُهُمْ،
فذَكَّر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هو أحسنكم وأجمله،
ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرةٍ غير مؤقَّتة يضمر فيها مثل معنى النكرة؛
فلذلك قالت العرب: هو أحسن الرجلين وأجمله؛ لأن ضمير الواحد يصلح فى معنى الكلام أن
تقول هو أحسن رجل فى الاثنين، وكذلك قولك هى أحسن النساء وأجمله. من قال وأجمله
قال: أجمل شىء فى النساء، ومن قال: وأجملهن أخرجه على اللفظ؛ واحتجَّ بقول
الشاعر:
* مثل الفِراخ نَتَقَتْ حواصله *
ولم يقل حواصلها. وإنما ذكَّر لأن
الفراخ جمع لم يُبْن على واحده، فجاز أن يُذْهَب بالجمع إلى الواحد. قال الفرَّاء:
أنشدنى المفضَّل:
ألا إن جيرانى العشيةَ رائح * دعتهم دواعٍ من هوى
ومنازِحُ
فقال: رائح ولم يقل رائحون؛ لأن الجيران قد خرج مَخْرَج الواحد من
الجمع إذ لم يبن جمعه على واحدِهِ.
فلو قلت: الصالحون فإن ذلك لم يجز, لأن الجمع
منه قد بنى على صورة واحده. وكذلك الصالحات نقول، ذاك غير جائز؛ لأن صورة الواحدة
فى الجمع قد ذهب عنه توهّم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول: عندى عشرون صالحون
فيرفعون ويقولون عندى عشرون جِيادا فينصبون الجياد؛ لأنها لم تبن على واحدها، فذهب
بها إلى الواحد ولم يُفعل ذلك بالصالحين؛ قال عنترة:
فيها اثنتانِ وأربعون
حَلُوبةً * سُوداً كخافِيةِ العرابِ الأسحمِ
فقال: سودا ولم يقل: سُود وهى من
نعت الاثنتين والأربعين؛ للعِلة التى أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القرّاء "زَيَّن
لِلذِين كفروا الحياةَ الدنيا" ويقال إنه مجاهد فقط.
{ كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ
الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
}
وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا
جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ
لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ...}
ففيها معنيان؛ أحدهما أن
تجعل اختلافهم كفر بعضِهم بكتابِ بعضٍ {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}
للإيمان بما أُنزل كلِّه وهو حقّ. والوجه الآخر أن تذهب باختلافهم إلى التبديل كما
بدِّلت التواراة. ثم قال {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} به للحق مما اختلفوا
فيه. وجاز أن تكون اللام فى الاختلاف ومِن فى الحق كما قال الله تعالى: {ومثل
الذِين كفروا كمثلِ الذِى ينعِق} والمعنى - والله أعلم - كمثل المنعوق به؛ لأنه
وصفهم فقال تبارك وتعالى: {صُمّ بكم عمى} كمثلِ البهائِم، وقال الشاعر:
كانت
فريضةَ ما تقول كما * كان الزِناءُ فريضةَ الرجمِ
وإنما الرجم فريضة الزناء،
وقال:
إن سِراجا لكريم مفخره * تَحْلَى بِه العَيْنُ إذا ما
تَجْهَرُهْ
والعين لا تحلى إنما يحلى بها سِرَاج، لأنك تقول: حَلِيتَ بعينى، ولا
تقول حَلِيَتْ عينى بك إلاّ فى الشعر.
{ أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا
إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }
وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ...}
استفهم
بِأم فى ابتداءٍ ليس قبله ألِف فيكونَ أم رَدّاً عليه, فهذا مما أعلمتك أنه يجوز
إذا كان قبله كلام يتّصل به. ولو كان ابتداء ليس قبله كلام؛ كقولك للرجل: أعندك
خير؟ لم يجز ها هنا أن تقول: أم عندك خير. ولو قلت: أنت رجل لا تنصِف أم لك سلطان
تُدِلّ به، لجاز ذلك؛ إذ تقدَّمه كلام فاتّصل به.
وقوله: {أَن تَدْخُلُواْ
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [معناه:
أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثلُ ما أصاب الذين قبلكم] فتُختَبروا. ومثله:
{أم حسِبتم أن تدخلوا الجنة ولَمّا يعلمِ الله الذِين جاهدوا مِنكم ويَعْلَمَ
الصابِرين} وكذلك فى التوبة {أَمْ حسِبتم أن تُتْرَكُوا ولَمّا يَعْلَمِ الله
الذِين جاهدوا منكم}.
وقوله: { وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ...}
قرأها القرّاء بالنصب إلا مجاهدا وبعض أهل المدينة فإنهما
رفعاها. ولها وجهان فى العربية: نصب، ورفع. فأمّا النصب فلأن الفعل الذى قبلها مما
يَتطاول كالترداد. فإذا كان الفعل على ذلك المعنى نُصِب بعده بحتَّى وهو فى المعنى
ماضٍ. فإذا كان الفعل الذى قبل حتى لا يتطاول وهو ماضٍ رُفع الفعل بعد حتّى إذا كان
ماضيا.
فأمّا الفعل الذى يَتطاول وهو ماضٍ فقولك: جَعَل فلان يديم النظر حتى
يعرفك؛ ألا ترى أن إِدامة النظر تطول. فإذا طال ما قَبْل حتَّى ذُهِب بما بعدها إلى
النصب إن كان ماضيا بتطاوله. قال: وأنشدنى [بعض العرب وهو] المفضَّل:
مَطَوتُ
بهم حتَّى تَكِلّ غُزَاتهم * وحتّى الجِيادُ ما يُقَدْنَ
بأَرسان
فنصب (تكِلّ) والفعل الذى
أدّاه قبل حتَّى ماض؛ لأنّ المَطْو بالإبل يتطاول حتى تكلّ عنه. ويدلّك على أنه ماض
أنك تقول: مطوت بهم حتى كلّت غُزَاتهم. فبِحُسْن فَعَل مكان يفعل تعرف الماضى من
المستقبل. ولا يحسن مكان المستقبل فَعَل؛ ألا ترى أنك لا تقول: أضرِب زيدا حتى
أقَرَّ، لأنك تريد: حتى يكون ذلك منه.
وإنما رَفَع مجاهد لأنّ فَعَل يحسُن فى
مثله من الكلام؛ كقولك: زُلزِلوا حتى قال الرسول. وقد كان الكِسائىّ قرأ بالرفع
دهرا ثم رجع إلى النصب. وهى فى قراءة عبدالله: "وزلزِلوا ثم زلزِلوا ويقول الرسول"
وهو دليل على معنى النصب. ولحتى ثلاثة معان فى يفعل، وثلاثة معان فى الأسماء. فإذا
رأيت قبلها فَعَل ماضيا وبعدها يفعل فى معنَى مُضِىّ وليس ما قبل (حتّى يفعل) يطول
فارفع يفْعَل بعدها؛ كقولك جئت حتى اكونُ معك قريبا. وكان أكثر النحويين ينصبون
الفعل بعد حتّى وإن كان ماضيا إذا كان لغير الأوّل، فيقولون: سرت حتى يدخلَها زيد،
فزعم الكسائىّ أنه سمع العرب تقول: سرنا حتى تطلعُ لنا الشمس بزُبالة، فرفع والفعل
للشمس، وسَمع: إنا لجلوس فما نَشْعُرُ حتى يسقطُ حَجَر بيننا، رفعا. قال: وأنشدنى
الكسائى:
وقد خُضْن الهَجِير وعُمْن حتى * يفرّج ذاك عنهنّ المَسَاءُ
وأنشدَ
(قول الآخر):
ونُنكِر يوم الروع ألوانَ خيلِنا * من الطعن حتى نحسب الجَوْن
أشقرا
فنصب ها هنا؛ لأنّ الإنكار يتطاول. وهو الوجه الثانى من باب
حتى.
وذلك أن يكون ما قبل حتى
وما بعدها ماضيين، وهما مما يتطاول، فيكون يفعل فيه وهو ماضٍ فى المعنى أحسنَ من
فَعَل، فنصب وهو ماضٍ لِحُسْن يفعل فيه. قال الكسائىّ: سمعت العرب تقول: إنّ البعير
ليهرَم حتى يجعلَ إذا شرب الماء مجَّه. وهو أمر قد مضى، و(يجعل) فيه أحسن من (جعل).
وإنما حسنت لأنها صفة تكون فى الواحد على معنى الجميع، معناه: إنّ هذا ليكون كثيراً
فى الإبِل. ومثله: إنّ الرجل ليتعظَّم حتى يمرّ فلا يسلم على الناس. فتنصب (يمرّ)
لحسن يفعل فيه وهو ماضٍ؛ وأنشدنى أبو ثَروْان:
أحِبّ لِحبّها السودان حتى *
أحِبَّ لحبّها سُودَ الكلابِ
ولو رَفع لمِضيه فى المعنى لكان صوابا. وقد أنشدنيه
بعض بنى أَسَد رفعا. فإذا أدخلت فيه "لا" اعتدل فيه الرفع والنصب؛ كقولك: إنّ الرجل
ليصادقك حتى لا يكتمك سِرّا، ترفع لدخول "لا" إذا كان المعنى ماضيا. والنصب مع دخول
لا جائز.
ومثله ما يرفع وينصب إذ دخلت "لا" فى قول الله تبارك وتعالى: {وحسِبوا
ألاّ تكون فِتنة} رفعا ونصبا. ومثله: "أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعَ إليهِم
قولا ولا يَمْلِك لهم ضُرّا ولا نفعا" يُنصَبان ويُرفَعان، وإذا أَلقيت منه "لا" لم
يقولوه إلاّ نصبا؛ وذلك أنّ "ليس" تصلح مكان "لا" فيمن رفع بِحتَّى وفيمن رفع بـ
"أَنْ"؛ ألا ترى أنك تقول: إنه ليؤاخيك حتى ليس يكتمك شيئا، وتقول فى "أَن": حسبت
أن لست تذهب فتخلّفتُ. وكلّ موضع حَسُنت فيه "ليس" مكان "لا" فافعَلْ به هذا: الرفع
مرّة، والنصب مرّة. ولو رُفع الفعل فى "أن" بغير "لا" لكان صوابا؛ كقلوك حسبت أن
تقولُ ذاك؛ لأنّ الهاء تحسن فى "أن" فتقول حسبت أنه يقول ذاك؛ وأنشدنى القاسم بن
مَعْنٍ:
إنى زَعيم يا نُوَيْـ * قَةُ إن نَجوتِ مِن الزَوَاحِ
وسلِمتِ مِن
عَرضِ الحُتُو * فِ مِن الغُدوّ إِلِى الرواحِ
أن تهبِطين بِلاد قو * م
يَرتَعُون مِن الطِلاحِ
فرفع (أن تهبِطين) ولم يقل: أن
تهبِطى.
فإذا كانت "لا" لا تصلح
مكانها "ليس" فى "حتى" ولا فى "أن" فليس إلا النصب، مثل قولك: لا أبرح حتى لا أحكم
أمرك. ومثله فى "أن": أردت أن لا تقول ذاك. لا يجوز ههنا الرفع.
والوجه الثالث فى يفعل مِن "حتى" أن يكون ما بعد "حتى"
مستقبلا، - ولا تبالِ كيف كان الذى قبلها - فتنصب؛ كقول الله جل وعز {لَنْ نَبْرَحَ
عليهِ عاكِفين حَتَّى يَرْجِعَ إِلينا مُوسى}، و {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى
يَأْذَنَ لِى أبِى} وهو كثير فى القرآن.
وأمّا الأوجه الثلاثة فى الأسماء
فأن ترى بعد حتى اسما وليس قبلها شىء يشاكِلُه يصلح عطفُ ما بعد حتّى عليه، أو أن
ترى بعدها اسما وليس قبلها شىء. فالحرف بعد حتّى مخفوض فى الوجهين؛ مِن ذلك قول
الله تبارك وتعالى {تَمَتَّعُوا حتى حِينٍ} و {سَلاَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلعِ الفجر}
لا يكونان إلا خفضا؛ لأنه ليس قبلهما اسم يُعطف عليه ما بعد حتى، فذُهِب بحتى إلى
معنى "إلى". والعرب تقول: أضمنه حتى الأربعاءِ أو الخميسِ، خفضا لا غير، وأضمن
القوم حتى الاربعاءِ. والمعنى: أن أضمن القوم فى الأربعاء؛ لأنّ الأربعاء يوم من
الأيام, وليس بمشاكِل للقوم فيعطفَ عليهم.
والوجه الثانى أن يكون ما
قبل حتى من الأسماء عددا يكثر ثم يأتى بعد ذلك الاسم الواحد أو القليل من الأسماء.
فإذا كان كذلك فانظر إلى ما بعد حتى؛ فإن كانت الأسماء التى بعدها قد وقع عليها من
الخفض والرفع والنصب ما قد وقع على ما قبل حتى ففيها وجهان: الخفض والإتباع لما قبل
حتى؛ من ذلك: قد ضُرِب القوم حتى كبيرُهم، وحتى كبيرِهم، وهو مفعول به، فى الوجهين
قد أصابه الضرب. وذلك أنّ إِلى قد تحسن فيما قد أصابه الفعل، وفيما لم يصبه؛ من ذلك
أن تقول: أعتق عبيدك حتى أكرمهم عليك. تريد: وأعتق أكرمهم عليك، فهذا مما يحسن فيه
إلى، وقد أصابه الفعل. وتقول فيما لا يحسن فيه أن يصيب الفعل ما بعد حتى: الأيام
تُصام كلها حتى يومِ الفطر وأيامِ التشريق. معناه يمسَك عن هذه الأيامِ فلا تُصام.
وقد حسنت فيها إِلى.
والوجه الثالث أن يكون ما بعد حتى لم يصبه شىء مما أصاب ما
قبلَ حتّى؛ فذلك خفض لا يجوز غيره؛ كقولك: هو يصوم النهار حتى الليلِ، لا يكون
الليل إلا خفضا، وأكلت السمكة حتى رأسِها، إذا لم يؤكل الرأس لم يكن إلا
خفصا.
وأمّا قول الشاعر:
فيا عجبا حتى كُلَيْب تَسُبُّنِى * كأَنّ أباها
نَهْشَل أو مُجاشِع
فإنّ الرفع فيه جيّد وإن لم يكن قبله اسم؛ لأنّ الأسماء التى
تصلح بعد حتى منفردة إنما تأتى من المواقيت؛ كقولك: أقِم حتى الليلِ. ولا تقول أضرب
حتى زيدٍ؛ لأنه ليس بوقت؛ فلذلك لم يحسن إفراد زيد وأشباهِه، فرفع بفعله، فكأنه
قال: يا عجبا أتسُّبنى اللئام حتى يسبنى كليبىّ. فكأنه عطفه على نيّة أسماء قبله.
والذين خفضوا توهموا فى كليبٍ ما توهموا فى المواقيت، وجعلوا الفعل كأنه مستأنف بعد
كليبٍ، كأنه قال: قد انتهى بى الأمر إلى كليبٍ، فسكت، ثم قال:
تسبنى.
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }