الشبهة الثالثة: منهم من يستدل بحديث أبي هريرة
الذي رواه البخاري في صحيحه(
حديث رقم 6993)ولفظه:« من رآني في المنام فسيراني في
اليقظة ولا يتمثل الشيطان
بي ». والكلام على الاستدلال بهذه الرواية من عدة
أوجه:
الوجه الأول
:
بالنظر في ألفاظ الحديث ورواياته نجد ملاحظات على لفظ « فسيراني في اليقظة
» لا ريب أنها تقلل من قيمة الاستدلال بها وهذه الملاحظات هي:
1- رَوَى هذا الحديث اثنا عشر من أصحاب رسول
الله ص أو يزيد
، مما يدل على شيوعه واستفاضته.
2- أن ثمانية من أئمة
الحديث المصنفين اهتموا بهذا الحديث فأخرجوه في كتبهم مما يؤكد اهتمامهم به وفهمهم
لمدلوله. ومع ذلك لم يُبَوِّب له أحد منهم بقوله مثلًا:باب في
إمكان رؤية النبي ص في اليقظة ، ولو فهموا منه ذلك لبَوَّبُوا به أو بعضهم على الأقل ؛ لأنه أعظم من كل ما ترجموا به
تلك الأبواب.
3- أن المواضع التي
أخرجوا فيها هذا الحديث بلغ (44) موضعًا، ومع كثرة هذه المواضع لم يرد في أي موضع
لفظ «فسيراني في اليقظة»بالجزم
إلا في إحدى روايات البخاري عن أبي هريرة ط.أما بقية
الروايات فألفاظها:« فقد
رآني » أو « فقد
رأى الحق»أو «فكأنما رآني في اليقظة « أو «فسيراني
في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة» بالشك.
4- أن البخاري أخرج الحديث في ستة
مواضع من صحيحه:ثلاثة منها من حديث أبي هريرة ط ، وليس فيها لفظ «فسيراني في
اليقظة » إلا في موضع واحد.
5- أن مسلم (حديث رقم 2266) ، وأبو داود (حديث رقم 5023) ، و أحمد
(5/306) ، أخرجوا الحديث بإسناد البخاري الذي فيه اللفظ المذكور
بلفظ «فسيراني في اليقظة. أو لكأنما رآني في اليقظة » وهذا
الشك من الراوي يدل على أن المحفوظ إنما هو لفظ «فكأنما رآني » أو «فقد رآني «؛ لأن كلًا منهما ورد في روايات كثيرة بالجزم
وليس فيها شيء شك فيه الراوي.
وعند الترجيح ينبغي
تقديم رواية الجزم على رواية الشك.
الوجه الثاني:
لو فرضنا أن هذا اللفظ« فسيراني
» هو
المحفوظ فإن العلماء المحققين لم يحملوه على المعنى الذي حمله عليه الصوفية.
| قال
الإمام النووي / في شرحه لصحيح مسلم(15/26):« فيه أقوال:
* أحدها:أن
يُرادَ به أهلُ عصره ، ومعناه:أن من رآه في النوم
ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته ص
في اليقظة عيانًا.
* وثانيها:أنه يرى تصديق تلك الرؤيا
في اليقظة في الدار الآخرة ؛
لأنه يراه في الآخرة جميع أمته.
* وثالثها:أنه يراه في الآخرة رؤية
خاصة في القرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك».
|
قال الحافظ ابن حجر
في(فتح الباري) (12/385):«وحاصل تلك الأجوبة ستة:
*أحدها:أنه
على التشبيه التمثيل، ودل عليه قوله ص في الرواية الأخرى:«فكأنما رآني
في اليقظة ».
* ثانيها:أن
معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير.
* ثالثها:أنه
خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
* رابعها:أنه
يراه في المرآة التي كانت له إن أمكن ذلك ، وهذا من أبعدالمحامل.
* خامسها:أنه
يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية لا مطلق من يراه.
* سادسها:أنه
يراه في الدنيا حقيقة ويُخاطبه ، وفيه ما تقدم من الإشكال.»
الوجه الثالث:ما
يَرِدُ على الصوفية من الإشكال على المعنى الذي قالوا به:
والإشكال أشار إليه ابن حجر / بقوله:«ونُقل عن جماعة من
الصالحين أنهم رأوا النبي ص في
المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين
فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك. قلت ( أي الحافظ ابن حجر) :وهذا مُشكِل جدًا ولو حُمل على ظاهره
لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة ، ويُعَكّرُ عليه أن جمعًا جمًا رأوه في
المنام ثم
لم يُذكَر عن واحد
منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف.وقد أشتد إنكار القرطبي على من قال:من رآه في المنام فقد
رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة».(فتح
الباري)(12/385)(.
والإنكار الذي أشار
إليه ابن حجر هو قول القرطبي:«اختُلِفَ في معنى الحديث : فقال قوم هو على ظاهره فمن رآه في
النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء ، وهذا قول يُدرَكُ فسادُه بأوائل
العقول ، ويلزم عليه أن لا يراه أحـد إلا
على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في
الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره
من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء، فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب ؛ لأنه جائز أن يُرى في الليل والنهار مع
اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره ، وهذه جهالات لا
يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل».
الوجه الرابع:أن هذه
العقيدة مخالفة لإجماع أهل السنة والجماعة وهي خاصة بأهل البدعة ، قال ابن حزم في (مراتب الإجماع)(ص176):« واتفقوا
أن محمدًا ص وجميع
أصحابه لا يرجعون إلى الدنيا إلا حين يبعثون مع جميع الناس».
الوجه
الخامس:اضطراب
مقالات الصوفية
في كيفية الرؤية:
لما اشتد الإنكار على هؤلاء القائلين برؤيته ص
في الدنيا
بعد وفاته يقظة لا
منامًا ، اضطربت مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا :
* فمنهم من أخذته
العزة بالإثم فنفى الموت عن النبي ص بالكلية وزعم أن موته ص هو تَسَتّرُه عمن لا يفقه عن الله.
* ومنهم من زعم أنه ص
يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه ويسير حيث شاء في أقطار الأرض في الملكوت
وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته.
* ومنهم من زعم أن له ص
مقدرة على التشكل والظهور في صور مشايخ الصوفية.
* ومنهم من زعم أن المراد
برؤيته كذلك
يقظة القلب لا يقظة الحواس الجسمانية.
* ومنهم من قال إن الاجتماع بالنبي ص
يكون في حالة بين النائم واليقظان.
* ومنهم من
قال إن الذي يُرَى
روحه ص.
* ومنهم من قال إنه لا يُرَى جسمُه وبدنه بل يُرَى مثالٌ له.
| وبعد أن ظهر تفرد تلك الرواية ـ التي استدل بها الصوفية ـ عن روايات الجمهور، وتلك الاحتمالات التي تأولها أهل
العلم في المراد بمعناها ، وتلك الإشكالات والإنكارات التي وردت على المعنى
الذي قصده الصوفية،
واضطراب مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا ، بكل ذلك يسقط استدلالهم بها ،
والقاعدة المشهورة في ذلك:إذا ورد على الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال.
الشبهة الرابعة:
الاحتجاج على
حياة الأنبياء بأن النبي ص اجتمع بهم
ليلة الإسراء في بيت المقدس.و ما دام هذا ممكنًا في حق النبي ص
معهم ، فيمكن
أن يكون جائزًا في حق أولياء أمته
معه ، فيرونه في اليقظة.
الجواب: أولاً:ليس
النزاع في حياة الأنبياء في قبورهم ولا في اجتماع النبي ص
بهم ليلة الإسراء ولا صلاته بهم إمامًا ، فإن ذلك كله ثابت عن النبي ص
، فيجب على جميع المؤمنين التصديق به.
ثانيًا: حياة
الأنبياء في قبورهم حياة برزخية لا نعلم كيف هي ، وحكمها كحكم غيرها من المغيّبات ، نؤمن بها ولا نشتغل بكيفيتها،
ولكننا نجزم بأنها مخالفة لحياتنا الدنيا.
ثالثًا:أن الذي
أخبرنا بأنه اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء هو الصادق المصدوق ص
الذي يجب على كل مؤمن أن يصدقه في كل ما أخبر به من المغيّبات دقيقِها وجليلِها ، ولذا آمنا بما أخبرنا به
واعتقدناه عقيدة لا يتطرق إليها شك إن شاء الله تعالى.
أما من جاءنا بخبر
وقوع رؤية النبي ص في
اليقظة فمجموعة من الدراويش خالفت الكتاب والسنة والإجماع والمعقول
، فلا يَجوز أن نصدقهم
في دعواهم تلك.
بل وجب على كل موحد أن يردها بما استطاع لأنه باب يؤدي فتحه إلى
ضلال عظيم وخراب للدين والعقل
ويفتح باب التشريع من جديد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تنبيه هام :
روى الإمام البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ط قَالَ :سَمِعْتُ النَّبِيَّ ص
يَقُولُ: «
مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ
الشَّيْطَانُ بِي» قَالَ
أَبُو عَبْد اللَّهِ :قَالَ
ابْنُ سِيرِينَ :إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ.
قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) :قوله
(قال أبو عبد الله :قال
ابن سيرين: إذا
رآه في صورته) سقط هذا التعليق للنسفي ولأبي ذر وثبت عند غيرهما،
وقد رويناه موصولًا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب وهو من شيوخ
البخاري عن حماد بن زيد عن أيوب قال : كان محمد ـ يعني ابن سيرين ـ إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي
ص قال: « صِفْ لي الذي رأيتَه، فإن وصف له صفة
لا يعرفها قال: لم تَرَهُ »وسنده
صحيح.
ووجدت له ما يؤيده: فأخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب : حدثني أبي قال: قلت لابن عباس : رأيت النبي ص
في المنام ، قال:
صِفْهُ لي، قال: ذكرتُ الحسنَ بنَ عليّ فشبهتُه به ، قال: قد رأيتَه » وسنده جيد،
ويعارضه ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة
قال :قال رسول
الله ص :« من رآني في المنام فقد رآني، فإني أُرَى في كل صورة » وفي سنده صالح مولى التوأمة
وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط». اهـ كلام الحافظ ابن حجر/.