المعاني الواردة في آيات
سورة البقرة
{ الم *
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
قوله تعالى:
{الم... ذَلِكَ الْكِتَابُ...} الهجاء موقوف في كل القران، وليس
بجزم يسمَّى جزماً, إنما هو كلام جزمه نَّية الوقوف على كل حرف منه؛ فافعل ذلك
بجميع الهجاء فيما قلّ أو كثر. وإنما قرأت القرّاءُ "آلمَ اللهُ" فى "آل عمران"
ففتحوا الميم؛ لأن الميم كانت مجزومة لِنيّة ّ الوقفة عليها، وإذا كان الحرف ينوى
به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف، فكانت القراءة "ا ل مَ
اللهُ " فتركت العرب همزة الألف من "الله" فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت
الميم جزما مستحِقّا للجزم لكسرت، كما فى " قِيل ادخلِ الجنة". وقد قرأها رجل من
النحويين, - وهو أبو جعفر الرؤاسىّ وكان رجلا صالحا - {الم الله} بقطع الألف،
والقراءة بطرح الهمزة. قال الفراء: وبلغنى عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف .
وإذا
كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفاً واحداً؛ مثل قوله "ص" و "ن" و"ق" كان فيه وجهان فى
العربية؛ إن نويت به الهجاء تركته جزماً وكتبته حرفاً واحداً، وإن جعلته اسماً
للسورة أو في مذهب قَسَم كتبته على هجائه "نون" و"صاد" و "وقاف" وكسرت الدال من
صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من "نون" فقلت: "نونَ والقلم" و "صادِ
والقرآن" و "قافِ" لأنه قد صار كأنه أداة؛ كما قالوا رجلانِ، فخفضوا النون من
رجلانِ لأن قبلها الفاً، ونصبوا النون فى "المسلمونَ والمسلمينَ" لأن قبلها ياء
وواوا. وكذلك فآفعل بـ "ياسينَْ والقرآن" فتنصب النون من "ياسين" وتجزمها . وكذلك
"حم" و "طس" ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل "طا سين ميم" لأنها لا تشبه
الأسماء، و"طس" تشبه قابيل. ولا يجوز ذلك في شىء من القرآن مثل "الم" و "المر"
ونحوهما.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ
الْكِتَابُ...}
يصلح فيه (ذَلِكَ) من
جهتين، وتصلح فيه "هذا" من جهة؛ فأما أحد الوجهين من "ذلك" فعلى معنى: هذه الحروف
يا أحمد، ذلك الكتاب الذى وعدتك أن أُوحِيه إليك. والآخر أن يكون "ذلك" على معنى
يصلح فيه "هذا"؛ لأن قوله "هذا" و "ذلك" يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته
بأحدهما بالإخبار عنه. ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان؛ فيقول السامع: قد بلغنا ذلك،
وقد بلغنا ذلك الخبر، فصلحت فيه "هذا"؛ لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذى
تشير إليه، وصلحت فيه "ذلك" لانقضائه، والمنقضى كالغائب. ولو كان شيئا قائما يُرَى
لم يجز مكان "ذلك" "هذا"، ولا مكان "هذا" "ذلك" وقد قال الله جل وعز: {وَاذْكُرْ
عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} إلى قوله: {وَكُلُّ مِنَ الأَخْيَارِ} ثم
قال: {هَذَا ذِكْرٌ}.
وقال جلّ وعزّ فى موضع آخر:
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} ثم قال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ
لِيوْمِ الْحِسَابِ}. وقال جلّ ذكره: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} ثم
قال: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد}. ولو قيل فى مثله من الكلام فى موضع "ذلك":
"هذا" أو فى موضع "هذا": "ذلك" لكان صوابا. وفى قراءة عبدالله بن مسعود "هَذَا
فَذُوقُوهُ" وفى قراءتنا" ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ".
فأما مالا يجوز فيه
"هذا" فى موضع "ذلك" ولا "ذلك" فى موضع "هذا" فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذى
تعرف: مَن هذا الذى معك؟ ولا يجوز هاهنا: مَن ذلك؟ لأنك تراه بعينه.
وأما قوله
تعالى: {هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ...}
فإنه رَفْع من وجهين
ونَصْب من وجهين؛ إذا أردت بـ "الكتاب" أن يكون نعتًا لـ "ذلك" كان الهُدَى فى موضع
رفع لأنه خبر لـ "ذلك"؛ كأنك قلت: ذلك هُدًى لا شكّ فيه. وإن جعلت {لاَ رَيْبَ
فِيهِ} خبره رفعت أيضا {هُدىً} تجعله تابعا لموضع "لاَ رَيْبَ فِيهِ"؛ كما قال الله
عزّ وجلّ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} كأنه قال: وهذا كتاب، وهذا
مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا. وفيه وجه ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف
لتمام ما قبله، كما قرأت القرّاء "الم. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكيم. هُدًى
وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنينَ" بالرفع والنصب. وكقوله فى حرف عبدالله: {أَأَلِدُ
وأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخٌ} وهى فى قراءتنا "شَيْخاً".
فأما النصب فى أحد الوجهين فأن تجعل "الكتاب" خبرا لـ "ذلك"
فتنصب "هُدًى" على القطع؛ لأن "هُدًى" نكرة اتصلت بمعرفة. قد تمّ خبرها فنصبتها؛
لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت "هُدىً" على القطع من الهاء التى
في "فيه"؛ كأنك قلت: لا شك فيه هاديا.
واعلم أن "هذا" إذا كان
بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان: أحدها - أن ترى الاسم الذى بعد
"هذا" كما ترى "هذا" ففعله حينئذ مرفوع ؛ كقولك: هذا الحمار فارهٌ. جعلت الحمار
نعتاً لهذا إذا كانا حاضرين، ولا يجوز ها هنا النصب. والوجه الآخر - أن يكون ما بعد
"هذا" واحدا يؤدّى عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب؛ كقولك: ماكان من السباع غير
مخوف فهذا الأسد مخوفا؛ ألا ترى أنك تخبر عن الأُسْد كلِّها بالخوف. والمعنى الثالث
- أن يكون ما بعد "هذا" واحدا لا نظير له؛ فالفعل حينئذ أيضا منصوب. وإنما نصبت
الفعل لأن "هذا" ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريبا، وكان الخبر بطرح "هذا" أجود؛
ألا ترى أنك لو قلت: ما لا يضرّ من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين. وأما معنى
التقريب: فهذا أوّل ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّا من أن يرفعوا هذا "بالأسد",
وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة "هذا" نصب فعله الذى كان يرافعه لخلوته. ومثله
"والله غفور رحيم" فإذا أدخلت عليه "كان" ارتفع بها والخبر منتظر يتم به الكلام
فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذى لا نظير
له مثل قولك: هذه الشمس ضياءً للعباد، وهذا القمر نوراً؛ فإن القمر واحد لا نظير
له، فكان أيضا عن قولك "هذا" مستغنيا؛ ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب
الوهم إلى غائب فتحتاجَ أن تقول "هذا" لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتا، ونصبت
خبره للحاجة إليه.
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }
قوله
تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ...}
انقطع معنى الختم عند
قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ}. ورفعت "الغشاوة" بـ "على"، ولو نصبتها بإِضمار "وجعل"
لكان صوابا. وزعم المفضَّل أن عاصم بن أبى النَّجُود كان ينصبها، على مثل قوله فى
الجاثية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وقلْبِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوةً}
ومعناهما واحد؛ والله أعلم. وإنما يحسن الإِضمار فى الكلام الذى يجتمع ويدلّ أوّله
على آخره؛ كقولك: قد أصاب فلان المال، فبنى الدورَ والعبيدَ والإماءَ واللباسَ
الحسن؛ فقد ترى البناء لا يقع على العبيد والإماء ولا على الدوابّ ولا على الثياب،
ولكنه من صفات اليَسَار؛ فحسن الإضمار لمّا عرف. ومثله فى سورة الواقعة: {يَطُوفُ
عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُنَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ} ثم قال: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرونَ. ولَحْمِ طَيْرٍ مِمّا
يَشْتَهُونَ. وحُورٍ عِينٍ} فخفض بعض القراء، ورفع بعضهم الحور العين. قال الذين
رفعوا: الحور العين لا يطاف بهنّ؛ فرفعوا على معنى قولهم: وعندهم حُورٌ عينٌ، أو مع
ذلك حورعينٌ؛ فقيل: الفاكهة واللحم لا يطاف بهما إنما يطاف بالخمر وحدها - والله
أعلم - ثم أُتبع آخر الكلام أوّله. وهو كثير فى كلام العرب وأشعارهم، وأنشدنى بعض
بنى أسد يصف فرسه:
عَلَفْتُهَا تِبْناً وماءً بارداً * حتى شَتَتْ هَمَّالةً
عَيْنَاهَا
والكتاب أعرب وأقوى فى الحجة من الشعر.
وأمّاما لا يحسن فيه الضمير لقلّة اجتمّاعه، فقولك: قد أعتقت مبارَكا أمس وآخرَ
اليوم ياهذا؛ وأنت تريد: واشتريت آخرَ اليوم؛ لأن هذا مختلف لا يعرف أنك أردت
ابتعت. ولا يجوز أن تقول: ضربت فلانا وفلانا؛ وأنت تريد بالآخر: وقتلت فلانا؛ لأنه
ليس هاهنا دليل. ففى هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء
الله.
{ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ
مُهْتَدِينَ }
وقوله: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ...}
ربما قال
القائل: كيف تَربح التجارة وإنما يَربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح
بَيْعُك وخسر بيعُك، فحسن القول بذلك؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان فى التجارة،
فعلم معناه. ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله: {فَإذَا
عَزَمَ اْلأَمْرُ} وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير إلا فى مثل هذا. فلو قال
قائل: قد خسر عبدك؛ لم يجز ذلك، (إن كنت) تريد أن تجعل العبد تجارةً يُربَح فيه أو
يُوضَع؛ لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يُوضَع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من
معناه إذا كان مَتْجُوراً فيه. فلو قال قائل: قد ربحتْ دراهمُك ودنانيرُك، وخسر
بَزُّك ورقيقك؛ كان جائزا لدلالة بعضه على بعض.
{
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
}
وقوله: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَاراً...}
فإنما ضرب المثل - والله
أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مَثَل للنفاق؛ فقال: مثلهم كمثل الذى
استوقد نارا؛ ولم يقل: الذين استوقدوا. وهو كما قال الله: {تَدُورُ أَعْيُنُهْم
كالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْْتِ}. وقوله: {مَاخَلْقُكُمْ وَلاَ
بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} فالمعنى - والله أعلم -: إلا كبعثِ نفس
واحدة؛ ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا كما قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ} أراد القِيَم والأجسام، وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ
خَاوِيَةٍ} فكان مجموعا إذا أراد تشبيه أعيان الرجال؛ فأجر الكلام على هذا. وإن
جاءك تشبيه جمع الرجال موحَّدا فى شِعْر فأَجِزْه.ِ وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا
فى شعر فهو أيضا يراد به الفعل فأجزه؛ كقولك: ما فِعْلك إلا كفعل الحَمِير، وما
أفعالكم إلا كفعل الذِّئب؛ فابنِ على هذا، ثم تُلْقِى الفعلَ فتقول: ما فعلك إلأا
كالحَمِير وكالذِّئب.
وإنما قال الله عزّ وجلّ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْْ}
لأن المعنى ذهب إلى المنافقين فجمع لذلك. ولو وُحِّد لكان صوابا؛ كقوله: {إنّ
شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الأَثِيمِ. كالْمُهْلِ تغْلِى فى الْبُطُونِ} و
"يَغْلِى"؛ فمن أنّث ذهب إلى الشجرة، ومن ذَكَّر ذهب إلى المهل. ومثله قوله عز وجل:
{أَمَنَةً نُعَاساً تَغْشَى طَائِفَةً منْكُمْ} للأَمَنة، "ويَغْشَى"
للنعاس.
{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ
يَرْجِعُونَ }