{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ
وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ
مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ
فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ
كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
وقوله: {وَاتَّبَعُواْ
مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ...}
(كما تقول فى ملك سليمان). تصلح "فى" و "على" فى مثل هذا
الموضع؛ تقول: أتيته فى عهد سليمان وعلى عهده سواء.
وقوله: {وَمَآ
أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ...}
الفرّاء يقرءون "الملَكَين" من الملائِكة.
وكان ابن عباس يقول: "الملِكين" من الملوك.
وقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا
مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ...}
أما السِّحْر فمن عمل
الشياطين، فيتعلمون من الملكين كلاما إذا قيل أُخِّذَ به الرجلُ عن امرأته. ثم قال:
ومن قول الملكين إذا تُعلِّم منهما ذلك: لا تكفر. {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ
تَكْفُرْ, فَيَتَعَلَّمُونَ} ليست بجواب لقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ} إنما هى
مردودة على قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فيتعَلَّمُون ما يضرهم ولا
ينفعهم؛ فهذا وجه. ويكون "فَيَتعلَّمُونَ" متصلة بقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ}
فيأْبَوْن فَيتَعلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ، وكأنه أجود الوجهين فى العربية. والله
أعلم.
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ
اشْتَرَاهُ...}
{مَنْ} فى موضع رفع وهى
جزاء؛ لأن العرب إذا أحدثت علىالجزاء هذه اللام صيّروا فعله على جهة فَعل. ولا
يكادون يجعلونه على يَفْعل كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم؛ ألا ترى أنهم
يقولون: سل عمّا شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون ما تعش؛ لأن "ما" فى تأويل
جزاءٍ وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى فَعل؛ لأن الحزم لا يستبين فى
فَعل، فصيّروا حدوث اللام - وإن كانت لا تُعرِّب شيئا - كالذى يُعَرِّب، ثم صيّروا
جواب الجزاء بما تُلْقى به اليمين - يريد تستقبل به - إمّا بلامٍ، وإما بـ "لا"
وإما بـ "إنّ" وإمّا بـ "ما" فتقول فى "ما": لئن أتيتنى ما ذلك لك بضائع، وفى
"إِنّ": لئن أتيتنى إنّ ذلك لمشكور لك - قال الفراء: لا يكتب لئن إلا بالياء ليفرق
بينها وبين لأن - وفى "لا": "لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ" وفى
اللام {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ} وإنما صيّروا جواب الجزاء
كجواب اليمين لأن اللام التى دخلت فى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ}
وفى قوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} وفى قوله: {لَئِنْ
أُخْرِجُوا} إنما هى لام اليمين؛ كان موضعها فى آخر الكلام، فلمّا صارت فى أوله
صارت كاليمين، فلُقيت بما يُلْقَى به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على يفعل جاز
ذلك وجزمته؛ فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر:
لَئِنْ تَكُ قد ضاقتْ
عليكم بُيوتُكُمْ * لَيَعْلَمُ ربِّى أنّ بَيْتِى واسِعُ
وأنشدنى بعضُ بنى
عُقَيل:
لئِن كان ما حُدِّثْتَهُ اليومَ صادِقاً * أَصُمْ فى نهارِ الْقَيْظِ
لِلشَّمسِ بادِيَا
وأَرْكَبْ حِماراً بين سَرْجٍ وفَرْوَةٍ * وأُعْرِ مِن
الخاتامِ صُغْرَى شِمالِيَا
فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه فى الكلام
أن يقول: لئن كان كذا لآتينك، وتوهم إلغاء اللام كما قال
الاخر:
فَلاَ يَدْعُنِى قَوْمِى
صَرِيحاً لُحِرَّةٍ * لئنْ كُنتُ مقتولاً ويَسْلَمُ عامِرُ
فاللام فى "لئن"
ملغاة، ولكنها كثرت فى الكلام حتى صارت بمنزلة " إِنْ"، ألا ترى أن الشاعر قد
قال:
فَلئِنْ قومٌ أصابُوا غِرَّةً * وأَصَبْنا من زمانٍ رَقَقَا
لَلَقدْ
كانوا لَدَى أزمانِنَا * لِصَنِيعين لِبَأْسٍ وتُقَى
فأدخل على "لَقَد" لاما
أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام فى "لَقَد" حتى صارت كأنها منها. وأنشدنى بعض بنى
أسد:
لَدَدْتُهُمُ النَّصِيحةَ كلَّ لَدٍّ * فَمَجُّوا النُّصْح ثم ثَنَوْا
فقَاءُوا
فَلاَ واللّهِ لا يُلْفَى لِمَا بِى * ولا لِلِمَا بِهِم أبداً
دَواءُ
ومثله قول الشاعر:
كَمَا ما امرؤٌ فى مَعْشَرٍ غيرِ رَهْطِهِ * ضَعيفُ
الكلامِ شَخْصُهُ مُتضائِلُ
قال: "كما" ثم زاد معها "ما" أخرى لكثرة "كما" فى
الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى:
لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عن غِبِّ مَعْرَكةٍ
* لا تُلْفِنَا مِن دِماءِ القومِ نَنْتَفِلُ
فجزم "لا تلفِنا" والوجه الرفع كما
قال الله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} ولكنه لمَّا جاء بعد حرفٍ
يُنْوى به الجزمُ صُيِّر جزما جوابا للمجزوم وهو فى معنى رفع. وأنشدنى القاسم بن
مَعْنٍ (عن العرب):
حَلَفْتُ له إِنْ تُدْلِجِ اللَّيْلَ لا يَزَلْ * أَمَامكَ
بيتٌ مِنْ بُيوتِى سائِرُ
والمعنى حلفت له لا يزال أمامك بيتٌ، فلما جاء بعد
المجزوم صُيِّر جوابا للجزم. ومثله فى العربية: آتيك كى (إن تُحدّثْنى بحديث
أَسمعْه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم).
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ
أَلِيمٌ }
قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا
وَقُولُواْ انْظُرْنَا...}
هو من
الإِرعاء والمراعاة، (وفى) قراءة عبدالله "لاَ تَقُولُوا راعُونَا" وذلك أنها كلمة
باليهودية شتم، فلمّا سمعت اليهودُ أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: يانبىّ
الله راعنا، اغتنموها فقالوا: قد كنا نسبّه فى أنفسنا فنحن الآن قد أمكننا أن نظهر
له السَّبَّ، فجعلوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعِنا، ويضحك بعضهم
إلى بعض، ففطن لها رجلٌ من الأنصار، فقال لهم: والله لا يتكلم بها رجل إلا ضربت
عنقه، فأنزل الله {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} ينهى المسلمين عنها؛ إذْ كانت سبّاً
عند اليهود. وقد قرأها الحسن البصرىّ: "لاَ تَقُولُوا رَاعِناً" بالتنوين، يقول: لا
تقولوا حُمْقا، وينصب بالقول؛ كما تقول: قالوا خيرا وقالوا
شرّا.
وقوله: {وَقُولُواْ انْظُرْنَا} أى
انتظرنا. و(أَنْظِرنا): أخِّرنا، (قال الله): {[قَالَ] أَنْظِرْنِى إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ} يريد أخِّرنى, وفى سورة الحديد {[يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ
وَالْمنافِقَاتُ] لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} خفيفة
الألِف على معنى الانتظار. وقرأها حمزة الزيّات: "لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْظِرُونَا"
على معنى التأخير.
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ }
وقوله: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ...}
معناه: ومن المشركين، ولو
كانت "المشركون" رفعاً مردودةً على "الّذِينَ كَفَروا" كان صوابا [تريد ما يودّ
الذين كفروا ولا المشركون]، ومثلها فى المائدة: {[يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً] مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ}، قُرئت بالوجهين:
[والكفارِ، والكفارَ]، وهى فى قراءة عبدالله: "ومِن الكفّارِ أولِياء". وكذلك قوله:
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} فى موضع
خفض على قوله: {مِن أَهلِ الكِتابِ}: ومن المشركين، ولو كانت رفعا كان صوابا؛ تردّ
على الذين كفروا.
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
}
وقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا...}
(أَوْ نُنْسِئْهَا -
أَوْ نُنْسِهَا) عامة القرّاء يجعلونه من النسيان، وفى قراءة عبدالله: "مَانُنْسِكَ
مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَخْها نَجِئْ بِمِثْلها أَوْ خَيْرٍ مِنها" وفى قراءة سالم
مولى أبى حذيفة: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِكَهَا"، فهذا يقوّى النّسيان.
والنّسخ أن يُعمَل بالآية ثم تَنزل الأخرى فيعمل بها وتُترك الأولى. والنّسيان ها
هنا على وجهين: أحدهما - على الترك؛ نتركها فلا ننسخها كما قال الله جل ذكره:
{نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} يريد تركوه فتركهم. والوجه الآخر - من النّسيان الذى
ينسى، كما قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} وكان بعضهم يقرأ: "أَوْ
نَنْسَأْهَا" يَهمز يريد نؤخرها من النَّسِيئة؛ وكلٌّ حسن. حدثنا الفرّاء قال:
وحدّثنى قيس عن هشام بن عروة بإسناد برفعه إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه سمع
رجلا يقرأ فقال: "يرحم الله هذا، هذا أذكرنى آياتٍ قد كنت
أُنسِيتهنّ".
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ
كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ
ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ }
وقوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ
رَسُولَكُمْ...}
(أَمْ) (فى المعنى) تكون ردّا على الاستفهام على جهتين؛
إحداهما: أن تفرّق معنى "أىّ" والأخرى أن يُسْتفهم بها. فتكون على جهة النسق، والذى
يُنوى بها الابتداءُ إلاّ أنه ابتداء متّصلٌ بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله
كلامٌ، ثم استفهمت لم يكن إلاّ بالألِفِ أو بهَلْ؛ ومن ذلك قول الله: {الم
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ}، فجاءت "أَمْ" وليس قبلها استفهام، فهذا دليل على أنها استفهامٌ مبتدأ
على كلامٍ قد سبقه. وأمّا قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} فإن
شئت جعلته على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام فرُدّ عليه؛ وهو قول الله:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرَ}. وكذلك قوله: {مَالَنَا
لاَنَرَى رِجَالاً كُنّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ. اتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا
أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} فإن شئت جعلته استفهاما مبتدأ قد سبقه كلامٌ،
وإن شئت جعلته مردودا على قوله: {مَالَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً} وقد قرأ بعض
القُرّاء: "أَتَّخَذْنَاهُمْ سخْرِيّاً" يستفهم فى "أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيّاً"
بقطع الألف لِينسِّق عليه "أَمْ" لأن أكثَر ما تجىءُ مع الألف؛ وكلٌّ صواب. ومثله:
{أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِى} ثم قال:
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا} والتفسير فيهما واحد. وربّما جعلتِ العربُ "أَمْ"
إذا سبقها استفهام لا تصلح أىٌّ فيه على جهة بل؛ فيقولون: هل لك قِبلنَا حق أم أنت
رجلٌ معروفٌ بالظّلم.
يريدون: بل أنت رجلٌ معروف
بالظُّلم؛ وقال الشاعر:
فَوَاللّهِ ما أدْرِى أَسَلْمَى تَغَوّلَتْ * أَمِ
النَّوْمُ أَمْ كُلٌّ إِلَىّ حَبِيبٌ
معناه [بل كلّ إلىّ حبيب].
وكذلك تفعل العرب فى "أَوْ" فيجعلونها نسَقاً مُفرِّقة لمعنى
ما صلحت فيه "أحَدٌ"، و "إِحْدَى" كقولك: اضرب أحدهما زيدا أو عمرا، فإذا وقعت فى
كلام لا يراد به أحدٌ وإن صلحت جعلوها على جهة بل؛ كقولك فى الكلام: اذهب إلى فلانٍ
أو دَعْ ذلك فلا تبرح اليوم. فقد دَلّك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأوّلِ
وجعل "أو" فى معنى "بل"؛ ومنه قول الله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ} وأنشدنى بعض العرب:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشّمسِ فى رَوْنَقِ
الضُّحى * وصُورَتِها أَوْ أَنْتِ فى الْعَيْنِ أَمْلَحُ
يريد: بل
أنتِ.
وقوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ...}
و "سواء" فى هذا الموضع
قصد، وقد تكون "سواء" فى مذهب غير؛ كقولك للرجل: أتيت سواءك.
{ وَدَّ كَثِيرٌ
مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً
حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ
فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقوله: {كُفَّاراً...}
ها هنا انقطع الكلامُ، ثم قال:
(حَسَداً) كالمفسِّر لم يُنصبْ على أنه نعتٌ للكفار، إنما هو كقولك للرجل: هو يريد
بك الشر حسدا وبغيا.
وقوله:{مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ...}
من قِبَل أنفسهم
لم يؤمروا به فى كتبهم.
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ
هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن
كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
وقوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن
كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى... }
يريد
يهوديّا، فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهوديّة. وهى فى قراءة أُبىٍّ
وعبدالله: "إِلاّ مَنْ كان يهودِيا أو نصرانِيّا" وقد يكون أن تجعل اليهود جمعاً
واحدُه هائِد (ممدود، وهو مثل حائِل ممدود) - من النوق - وحُول، وعائِط وعُوط وعِيط
وعُوطَط.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ
مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُوْلَائِكَ
مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
وقوله: {أُوْلَائِكَ مَا كَانَ
لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ...}
هذه الرُّومُ كانوا غَزَوا بيت
المقدس فقتلوا وحرّقوا وخرّبوا المسجد. وإنما أظهر الله عليهم المسلمين فى زمن عمر
- رحمه الله - فبنوه، (ولم) تكن الروم تدخله إلا مستخفِين، لو عُلِم بهم
لقتِلوا.
وقوله: { لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ...}
يقال: إن مدينتهم
الأولى أظهر الله عليها المسلمين فقتلوا مقاتِلتَهم، وسبوَا الذرارى والنساء، فذلك
الخزى.
وقوله: {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ...}
يقول فيما وعد
الله المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد.
{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ
قَانِتُونَ }
وقوله: {كُلٌّ لَّهُ
قَانِتُونَ...}
يريد مطيعون، وهذه خاصّة لأهل الطاعة ليست بعامّة.
{ بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ }
وقوبه: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ...}
رفعٌ ولا
يكون نصبا، إنما هى مرودة على "يقول" [فإنما يقول فيكون]. وكذلك قوله: {وَيَوْمَ
يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} رفعٌ لا غير. وأمّا التى فى النحل:
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ}
فإنها نصب، وكذلك التى فى "يس" نصبٌ؛ لأنّها مردوةٌ على فعل قد نُصب بأن، وأكثر
القرّاء على رفعهما. والرفع صوابٌ، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله: {إِذَا
أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ} فقد تمّ الكلام، ثم قال: فسيكون ما أراد الله.
وإنّه لأحبُّ الوجهين إلىّ، وإن كان الكسائىّ لا يُجيز الرفعَ فيهما ويذهبُ إلى
النَّسق.
المعاني الواردة في آيات سورة (
البقرة )
{ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ
أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ
تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
وقوله:
{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ...}
يقول: تشابهت قلوبهم فى اتفاقهم على الكفر. فجعله
اشتباها. ولا يجوز تشّابهت بالتثقيل؛ لأنّه لا يستقيم دخول تاءين زائدتين فى تفاعلت
ولا فى أشباهها. وإنما يجوز الإدغام إذا قلت فى الاستقبال: تتشابه (عن قليل) فتدغم
التاء الثانية عند الشين.
{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً
وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ }
وقوله: {وَلاَ تُسْأَلُ
عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ...}
قرأها ابن عباس [وأبو
جعفر] محمد بن علىّ بن الحسين جزما، وقرأها بعض أهلِ المدينة جزما، وجاء التفسير
بذلك، [إلا أنّ التفسير] على فتح التاء على النهى. والقرّاء [بعد] على رفعها
علىالخبر: ولستَ تُسْئلُ، وفى قراءة أبىّ "وما تُسألُ" وفى قراءة عبدالله: "ولن
تُسألَ" وهما شاهدان للرفع.
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً
لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ
تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }
وقوله: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا
عَدْلٌ...}
يقال: فِدْيةٌ.
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن
ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
وقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ...}
يقال: أمره بخلالٍ عشرٍ من السُّنّة؛ خمسٌ
فى الرأس، وخمس فى الجسد؛ فأما اللاتى فى الرأس فالفَرْق، وقصّ الشّارب،
والاستنشاق، والمضمضة، والسِّواك. وأما اللاتى فى الجسد فالخِتان، وحَلْق العانة،
وتقليم الأظافر، ونتف الرُفْغَين يعنى الإبطين. قال الفرّاء: * ويقال للواحد رُفْغ
* َوَالاستنجاء.
{فَأَتَمَّهُنَّ}: عمل بهنّ؛ فقال الله تبارك وتعالى: {إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}: يُهتدَى بهَدْيك ويُستنّ بك، فقال: ربِّ {وَمِن
ذُرِّيَّتِي} على المسئلة.
وقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ...}
يقول: لا يكون للمسلمين إمام مشرك. وفى قراءة عبدالله:
"لاَيَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمُونَ". وقد فسّر هذا لأن ما نالك فقد نِلته، كما
تقول: نلت خيرك، ونالنى خيرُك.
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى
وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
وقوله: {وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ...}
يثوبون إليه - من المثابة والمثاب
- أراد: من كل مكان. والمثابة فى كلام العرب كالواحد؛ مثل المقام
والمقامة.
وقوله:
{وَأَمْناً...}
يقال: إن من جنى جناية أو أصاب حدّا
ثم عاذ بالحرم لم يُقَم عليه حدّه حتى يخرج من الحرم، ويؤمر بِأَلاَّ يخالَط ولا
يبايَع، وأن يضيَّق عليه (حتى يخرج) ليقام عليه الحدّ، فذلك أمنه. ومنّ جنى من أهل
الحرم جناية أو أصاب حدّا أقيم عليه فى الحَرَم.
وقوله:{وَاتَّخِذُواْ
مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى...}
وقد قرأت القُرَّاء بمعنى الجزم
[والتفسير مع أصحاب الجزم]، ومن قرأ "واتَّخَذوا" ففتح الخاء كان خبرا؛ يقول:
جعلناه مثابة لهم واتخذوه مصلى، وكلّ صواب إن شاء الله.
وقوله: {أَن طَهِّرَا
بَيْتِيَ...}
يريد: من الأصنام ألاّ تعلَّق فيه.
وقوله: {لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ...}
يعنى أهله {والرُّكَّعِ السُّجُودِ} يعنى أهل الإسلام.
{
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ
مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ }
وقوله: {وَمَن كَفَرَ..}
من قول الله
تبارك وتعالى {فَأُمَتِّعُهُ} على الخبر. وفى قراءة أُبَىّ "وَمنْ كَفَرَ
فَنُمَتِّعُه قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُ إلى عذابِ النارِ" (فهذا وجه). وكان ابن
عباس يجعلها متّصلة بمسئلة إبراهيم صلى الله عليه على معنى: رَبّ "ومَنْ كَفَر
فأمْتِعْه قليلا ثم اضطَرَّه" (منصوبة موصولة). يريد ثم اضْطَرِرْه؛ فإذا تركت
التضعيف نصبت، وجاز فى هذا المذهب كسر الراء فى لغة الذين يقولون مُدِّهِ. وقرأ
يحيى بن وَثَّاب: "فَإِمْتِعُه قلِيلا ثم إضطَرُّة" بكسر الألف كما تقول: أَنا
إعلَم ذلك.
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
}
وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ...}
يقال هى إساس البيت. واحدتها قاعدة، ومن النساء اللواتى قد
قعدن عن المحيض قاعد بغير هاء. ويقال لامرأة الرجل قعيدته.
وقوله:{رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّآ...}
يريد: يقولان ربنا. وهى فى قراءة عبدالله "ويقولانِ
ربنا".
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً
مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا...}
وفى قراءة
عبدالله: "وأَرِهِم مناسِكهم" ذهب إلى الذُّرِّيَّة. "وأرِنا" ضمَّهم إلى نفسه،
فصاروا كالمتكلّمين عن أنفسهم؛ يدلّك على ذلك قوله: {وابعث فيهم رسولا} رجع إلى
الذُّرِّيَّة خاصّة.
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن
سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ }
وقوله: {إِلاَّ مَن سَفِهَ
نَفْسَهُ...}
العرب توقع سفِه على
(نَفْسه) وهى مَعْرِفة. وكذلك قوله: {بِطرت معِيشتها} وهى من المعرفة كالنكرة، لأنه
مفسِّر، والمفسِّر فى أكثر الكلام نكرة؛ كقولك: ضِقت بهِ ذَرْعا، وقوله: {فَإنْ
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىءٍ مِّنْهُ نَفْساً} فالفعل للذَرْع؛ لأنك تقول: ضاق ذَرْعى
به، فلمَّا جعلت الضِيق مسنَدا إليك فقلت: ضقت جاء الَّذْرع مفسرا لأن الضيق فيه؛
كما تقول: هو أوسعكم دارا. دخلتِ الدار لتدلّ على أن السعة فيها لافى الرَّجُل؛
وكذلك قولهم: قد وَجِعْتَ بَطْنَك، ووثِقْتَ رأيك - أو - وَفِقْت، [قال أبو
عبدالله: أكثر ظنِّى وثِقت بالثاء] إنما الفعل للأمر، فلمَّا أُسند الفعل إلى
الرجُل صلح النصب فيما عاد بذكره على التفسير؛ ولذلك لا يجوز تقديمه، فلا يقال:
رأيَه سَفِهَ زيدٌ، كما لا يجور دارا أنت أوسعهم؛ لأنه وإن كان معرفة فإنه فى تأويل
نكرة، ويصيبه النصب فى موضع نصب النكرة ولا يجاوزه.
المعاني الواردة في آيات
سورة ( البقرة )
{ وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ
تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ
نَعْبُدُ الهكَ وَاله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الهاً
وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
وقوله: {وَوَصَّى بِهَآ
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ...}
فى مصاحف أهل المدينة "وأَوصى" وكلاهما صوابٌ كثيرٌ فى
الكلام.
وقوله: { وَيَعْقُوبُ...}
أى ويعقوبُ وصّى بهذا
أيضا. وفى إحدى القراءتين قراءة عبدالله أو قراءة أُبَىٍّ: "أَنْ يَا بنَىَّ إن
الله اصطفى لكم الدين" يوقع وصى على "أن" يريد وصّاهم "بأن" وليس فى قراءتنا "أن"،
وكلّ صواب. فمن ألقاها قال: الوصيَّة قول، وكلّ كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول
أَنْ، وجاز إلقاء أنْ؛ كما قال الله عزَّ وجلَّ فى النساء: {يوصِيكم اللّهُ فى
أولادِكم لِلذكرِ مثل حظِّ الأنثيين} لأن الوصيَّة كالقول؛ وأنشدنى الكسائى:
إنى
سأُبدى لك فيما أُبدى * لى شَجَنان شَجن بنجد
* وشجَن لى ببلاد السِنْد *
لأن
الإبداء فى المعنى بلسانه؛ ومثله قول الله عزّ وجلّ {وَعَدَ اللّهُ الَّذينَ آمنُوا
وعَمِلوا الصالِحاتِ مِنْهم مغفِرةً} لأن العِدَة قول. فعلى هَذا يُبنى ما ورد من
نحوه.
وقول النحويّين: إنما أراد: أن فأُلقِيتْ ليس بشىء؛ لأن هذا لو كان لجاز
إلقاؤها مع ما يكون فى معنى القول وغيره.
وإذا كان الموضع فيه ما يكون معناه
معنى القول ثم ظهرت فيه أن فهى منصوبة الألف. وإذا لم يكن ذلك الحرف يرجع إلى معنى
القول سقطت أن من الكلام.
فأمّا الذى يأتى بمعنى القول فتظهر فيه أن مفتوحة فقول
الله تبارك وتعالى: {إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِه أَنْ أَنذِر قومك} جاءت
أن مفتوحة؛ لأن الرسالة قول. وكذلك قوله {فانْطَلَقُوا وهم يَتَخَافَتُونَ. أَنْ
لاَ يَدْخُلنا} والتخافت قول. وكذلك كلّ ماكان فى القرآن. وهو كثير. منه قول الله
{وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمدُ لِلّه}. ومثله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ
أَنْ لَعْنَةُ اللّهِ [عَلَى الظَّالِمين]} الأذان قول، والدعوى قول فى
الأصل.
وأمّا ما ليس
فيه معنى القول فلم تدخله أن فقول الله {ولو تَرَى إِذ المجرِمون ناكِسُوا
رُءُوسِهِم عِندَ رَبّهِم رَبَّنَا أَبْصِرنَا} فلمّا لم يكن فى "أبصرنا" كلام يدلّ
على القول أضمرت القول فأسقطت أن؛ لأن ما بعد القول حكاية لا تحدث معها أن. ومنه
قول الله {والملائِكةُ باسِطوا أَيدِيهم أَخرِجوا أَنفسكم}. معناه: يقولون أخرجوا.
ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وإِذْ يَرْفَعُ إِبراهِيمُ القَواعِدَ مِن البيتِ
وإِسمعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنّا}. معناه يقولانِ "رَبَّنَا تَقَبَّلْ منَّا"
وهو كثير. فقِس بهذا ما ورد عليك.
[وقوله:... قَالُواْ نَعْبُدُ الهكَ
وَاله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الهاً وَاحِداً وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ ].
قرأتِ القُرّاء "نعبد إِلهك وإِله آبائِك"، وبعضُهم قرأ
"وإِله أَبِيك" واحدا. وكأن الذى قال: أبيك (ظنّ أن العمّ لا يجوز فى الآباء) فقال
"وإِله أبِيك إِبراهِيم"، ثم عدّد بعد الأب العَّم. والعرب تجعل الأعمام كالآباء،
وأهلَ الأمّ كالأخوال. وذلك كثير فى كلامهم.
{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ
نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ }
وقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً...}
أمر الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن نصبتها بـ "نكون" كان
صوابا؛ وإن نصبتها بفعل مضمر كان صوابا؛ كقولك بل نتّبِع "مِلّة إِبراهِيم"، وإنما
أمر الله النبى محمدا صلى الله عليه وسلم فقال "قل بل مِلّة
إِبراهِيم".