{ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ
}
وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ...}
نَصْب, مردودة على المِلَّلة, وإنما قيل
"صبغة اللهِ" لأن بعض النصارى كانوا إذا وُلد المولود جعلوه فى ماء لهم يجعلون ذلك
تطهيرا له كالختانة. وكذلك هى فى إحدى القراءتين. قل "صِبغة اللّهِ" وهى الخِتَانة،
اختتن إبراهيم صلىالله عليه وسلم فقال: "صِبغة اللّهِ" يأمر بها محمدا صلى الله
عليه وسلم فجرت الصِبْغة على الخِتَانة لصَبغهم الغِلْمان فى الماء، ولو رفعت
الصبغة والمِللّة كان صوابا كما تقول العرب: جَدُّك لاكَدُّك، وجَدَّك لا كَدَّك.
فمن رفع أراد: هى مِلَّة إبراهيم، هى صبغة الله، هو جَدُّك . ومن نصب أضمر مثل الذى
قلتُ لك من الفعل.
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ
لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن
كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
}
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً...}
يعنى عَدْلا
{لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} يقال: إن كلّ نبىّ يأتى يوم القيامة
فيقول: بلّغت، فتقول أمَّته: لا، فيكذّبون الأنبياء، (ثم يجاء بأمّة محمد صلى الله
عليه وسلم فيصدِّقون الأنبياء ونبيّهم)، ثم يأتى النبىُّ صلى الله عليه وسلم فيصدّق
أمَّته، فذلك قوله تبارك وتعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، ومنه قول الله: {فكيف إذا جِئنا مِن كل
أمَّةٍ بِشهيدٍ [وجئنا بك على هؤلاء شهيدا]}.
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ...}
أسند الإيمان إِلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى
فيمن مات من المسلمين قبل أن تحوَّل القبلة. فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: كيف
بصلاة إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يريد إيمانهم لأنهم داخلون معهم فى
الملَّلة، وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، تريد: قتلنا منكم، فتواجههم
بالقتل وهم أحياء.
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن
رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
وقوله:
{فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ...}
يريد: نحوه وتلقاءه، ومثله فى الكلام:
ولِّ وجهك شطره، وتلقاءه، وتُجَاهه.
المعاني الواردة في آيات سورة ( البقرة
)
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ
أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً
لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }
وقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ...}
أجيبت (لئن) بما يجاب
به لو. ولو فى المعنى ماضية، ولئن مستقبلة، ولكن الفعل ظهر فيهما بفَعَل فأُجيبتا
بجواب واحدٍ، وشُبِّهت كلّ واحدة بصاحبتها. والجواب فى الكلام فى (لئن) بالمستقبل
مثل قولك: لئن قمت لأقومنَّ، ولئن أحسنت لتُكرمنّ، ولئن أسأت لا يُحْسَنْ إليك.
وتجيب لو بالماضى فتقول: لو قمت لقمت، ولا تقول: لو قمت لأقومنَّ. فهذا الذى عليه
يُعمل، فإذا أُجيبت لو بجواب لئن فالذى قلت لك من لفظ فِعْلَيهما بالمضىّ، ألا ترى
أنك تقول: لو قمت, ولئن قمت، ولا تكاد ترى (تَفْعل تأتى) بعدهما، وهى جائزة، فلذلك
قال {ولئن أرسلنا رِيحا فرأَوْه مُصْفَرّاً لَظَلُّوا} فأجاب (لئن) بجواب (لو)،
وأجاب (لو) بجواب (لئن) فقال {ولو أنهم آمنوا واتقَوْا لمثوبة مِن عِندِ الله خير}
الآية.
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ... الْحَقُّ مِن
رَّبِّكَ...}
المعنى أنهم لا يؤمنون بأن
القِبْلة التى صُرِف إليها محمد صلى الله عليه وسلم قبلة إبراهيم صلى الله عليه
وسلم وعلى جميع الأنبياء، ثم استأنف (الحقُّ) فقال: يا محمد هو {الْحَقُّ مِن
رَّبِّكَ}، إنها قبلة إبراهيم {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: فلا تشكَّنّ
فى ذلك. والممترِى: الشاكّ.
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقوله: {وَلِكُلٍّ
وِجْهَةٌ...}
يعنى قبلة {هُوَ مُوَلِّيهَا}: مستقبِلها، الفعل لِكلٍّ، يريد:
مولٍّ وجهَه إليها. والتولية فى هذا الموضع إقبال، وفى {يولُّوكُم الأدبار}، {ثُمَّ
وَلَّيتم مُدْبِرين} انصراف. وهو كقولك فى الكلام: انصرِف إلىّ، أى أقبِل إلىّ,
وانصرف إلى أهلك أى اذهب إلى أهلك. وقد قرأ ابن عباس وغيره "هو مُوَلاَّها"، وكذلك
قرأ أبو جعفر محمد بن علىّ، فجعَل الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد. والله
أعلم.
وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ...( )}
إذا رأيت حروف الاستفهام قد
وُصِلت بـ (ما)، مثل قوله: أينما، ومتى ما، وأىٌّ ما، وحيث ما، وكيف ما، و
{أيّاًمَََّا تدعوا} كانت جزاء ولم تكن استفهاما. فإذا لم توصَل بـ (ما) كان
الأغلبَ عليها الاستفهامُ، وجاز فيها الجزاء.
فإذا كانت جزاء جزمْتَ الفعلين:
الفعلَ الذى مع أينما وأخواتها، وجوابَه؛ كقوله {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ
بِكُمُ اللَّهُ} فإن أدخلت الفاء فى الجواب رفعت الجواب؛ فقلت فى مثله من الكلام:
أينما تكن فآتيك. كذلك قول الله - تبارك وتعالى - {ومن كفر
فَأُمتِّعه}.
فإذا كانت
استفهاما رفعْتَ الفعل الذى يلى أين وكيف، ثم تجزم الفعل الثانى؛ ليكون جوابا
للاستفهام، بمعنى الجزاء؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {هل أَدُلُّكُمْ على تجارةٍ
تُنْجِيِكم مِن عَذابٍ أليم} ثم أجاب الاستفهام بالجزم؛ فقال - تبارك وتعالى -
{يغفرْ لَكُمْ ذنوبَكم}.
فإذا أدخلت فى جواب الاستفهام فاءً نصبت كما قال الله -
تبارك وتعالى - {لولا أًخَّرْتنِى إلى أَجلٍ قرِيبٍ فأًصَّدّقَ}
فنصب.
فإذا جئت إلى العُطُوف التى تكون فى
الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك فى العطف ثلاثة أوجه؛ إن شئت رفعت العطف؛ مثل قولك:
إن تأتنى فإنى أهل ذاك، وتُؤْجَرُ وتحمدُ، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت, وتجعله
كالمردود على موضع الفاء. والرفعُ على ما بعد الفاء. وقد قرأت القرّاء "من يضلِلِ
الله فلا هادِى له ويَذَرْهُم". رَفْع وجَزْم . وكذلك {إِنْ تُبْدُوا الصّدقاتِ
فَنِعِمَّا هِى وإنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوها الفقراءَ فَهْوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
ويُكَفِّرُْ} جَزْم ورفع. ولو نصبْتَ على ما تنصب عليه عُطُوف الجزاء إذا استغنى
لأصبت؛ كما قال الشاعر:
فإن يَهْلِكِ النعمانُ تُعْرَ مِطَّيةٌ * وتُخْبَأَ فى
جوفِ العِيابِ قُطُوعُها
وإن جزمت عطفا بعد ما نصبت تردّه على الأوّل، كان
صوابا؛ كما قال بعد هذا البيت:
وتَنْحِطْ حَصَانٌ آخِرَ اللّيلِ نَحْطةً *
تَقَصَّمُ مِنها - أَو تَكادُ - ضُلوعها
وهو كثير فى الشعر والكلام. وأكثر ما
يكون النصب فى العُطُوف إذا لم تكن فى جواب الجزاء الفاءُ، فإذا كانت الفاءُ فهو
الرفع والجزم.
وإذا أجبت الاستفهام
بالفاء فنصبت فانصِبِ العطوف، وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله فى المنافقين {لَوْلاَ
أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّق وأََكُنْ" رددت "وأَكُنْ" على موضع
الفاء؛ لانها فى محلّ جزمٍ؛ إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جُزم. والنصب
على أن تردّه على ما بعدها، فتقول: "وأكونَ" وهى فى قراءة عبدالله بن مسعود "وأكون"
بالواو، وقد قرأ بها بعض القُرّاء. قال: وأرى ذلك صوابا؛ لأن الواو ربما حذفت من
الكتَاب وهى تراد؛ لكثرة ما تُنْقَص وتُزاد فى الكلام؛ ألا ترى أنهم يكتبون
"الرحمن" وسُلَيمن بطرح الألف والقراءةُ بإثباتها؛ فلهذا جازت. وقد أُسقطت الواو من
قوله {سَنَدْعُ الزَّبانِية} ومن قوله {وَيَدْعُ الإِنْسانُ بالشّرِّ} الآية،
والقراءة على نيَّة إثبات الواو. وأسقطوا من الأَيكةِ ألِفين فكتبوها فى موضع ليكة،
وهى فى موضع آخر الأَيْكة، والقُرَّاء علىالتمام، فهذا شاهد على جواز "وأكون من
الصَّالِحينَ".
وقال بعض الشعراء:
فأَبلُونِى بَلِيَّتَكُم لَعَلِّى *
أُصلُكُمْ وأَسْتَدْرِجْ نَوَيّا
فجزم (وأستدرجْ). فإن شئت رددته إلى موضع الفاء
المضمرة فى لعلّى، وإن شئت جعلته فى موضع رفع فسكّنْت الجيم لكثرة توالى الحركات.
وقد قرأ بعض القراء "لا يَحْزُنْهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَر" بالجزم وهم ينوون الرفع،
وقرءوا "أَنُلْزِمْكُموها وأَنْتُمْ لها كارِهون" والرفع أحبُّ إلىَّ من
الجزم.
وقوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ...)}
العرب تقول: هذا أمر ليس له وِجهة،
وليس له جِهة، وليس له وَجْه؛ وسمعتهم يقولون: وجِّه الحَجَر، جِهَةٌ مّاله،
ووِجْهةُ مّاله، ووَجْهٌ مّاله. ويقولون: ضَعْه غير هذه الوضْعة، والضِّعة،
والضَعَة. ومعناه: وجّه الحَجَر فله جهة؛ وهو مَثَل، أصله فى البناء يقولون: إذا
رأيت الحجر فى البناء لم يقع موقعه فأدِرْه فإنك ستقع على جهته. ولو نصبوا على
قوله: وجِّهه جِهتَه لكان صوابا.
{ وَمِنْ
حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا
كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي
وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَآ أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ
تَعْلَمُونَ }
وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ...}
يقول القائل: كيف استثنى
الذين ظَلَموا فى هذا الموضع؟ ولعلهم توهَّموا أن ما بعد إلاّ يخالف ما قبلها؛ فإن
كان ما قبل إلاّ فاعلا كان الذى بعدها خارجا من الفعل الذى ذُكر, وإن كان قد نفى
عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا؛ كما تقول: ذهب الناس إلاّ زيدا، فزيد خارج من
الذهاب، ولم يذهب الناس إلا زيد، فزيد ذاهب، والذهاب مثبَت لزيد.
فقوله {إِلاَّ
الَّذِينَ ظَلَمُواْ} [معناه: إلا الذين ظلموا منهم]، فلا حجَّة لهم {فلا
تَخْشَوْهُمْ} وهو كما تقول فى الكلام: الناسُ كلّهم [لك] حامدون إلا الظالم لك
المعتدِىَ عليك، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة. وكذلك
الظالم لا حجَّة له. وقد سُمِّى ظالما.
وقد قال بعض النحويين: إلا
فى هذا الموضع بمنزلة الواو؛ كأنه قال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ} ولا للذين ظلموا. فهذا صواب فى التفسير، خطأ فى العربية؛ إنما تكون إلا
بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك تصير بمنزلة الواو؛ كقولك: لى
على فلان ألْف إلا عشرة إلا مائة، تريد بـ (إلاّ) الثانية أن ترجع على الألْف، كأنك
أغفلت المائة فاستدركتها فقلت:اللهمّ إلا مائة. فالمعنى له علىّ ألف ومائة، وأن
تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهمّ إلا أباك. فتستثنى الثانى، تريد: إلا أباك وإلا
أخاك؛ كما قال الشاعر:
ما بالمدينةِ دار غيرُ واحدةٍ * دارُ الخليفة إلا دارُ
مَروْانا
كأنه أراد: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان.
وقوله:
{وَاخْشَوْنِي...}
اثبتت فيها الياء ولم تثبت فى غيرها، وكلّ ذلك صواب، وإنما
استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدلّ عليها، وليست تَهَيَّبُ العرب حذف الياء من
آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا، من ذلك "رَبِّى أَكْرَمَنِ - و - أَهانَنِ" فى
سورة "الفجر" وقوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ} ومن غير النون "المُناد" و"الداع" وهو
كثير، يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمّة ما قبلها؛ مثل قوله:
{سَنَدْعُ الزَّبانيةَ - وَيدْعُ الإنْسانُ} وما أشبهه، وقد تُسقط العرب الواو وهى
واو جَماع، اكتُفِى بالضمَّة قبلها فقالوا فى ضربوا: قد ضَرَبُ، وفى قالوا: قد قالُ
ذلك، وهى فى هوازن وعُلْيا قيس؛ أنشدنى بعضهم :
إذا ما شاءُ ضرُّوا من أرادوا *
ولا يألو لهم أحد ضرارا
وأنشدنى الكسائى:
متى تقول خَلَتْ من أهلِها الدارُ *
كأنهم بجناحى طائر طاروا
وأنشدنى بعضهم:
فلو أَن الأطبّا كانُ عِندِى * وكان
مع الأَطِباءِ الأسَاة
وتفعل ذلك فى ياء التأنيث؛ كقول عنترة:
إن العدوّ لهم
إِليك وسِيلة * إِن يأْخذوكِ تكحَّلِى وتَخَضَّبِ
يحذفون (ياء التأنيث) وهى
دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة.
وقوله: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ...}
جواب
لقوله: {فاذْكُرونِى أَذْكُرْكُمْ}: كما أرسلنا، فهذ جواب (مقدّم
ومؤخَّر).
وفيها وجه آخر: تجعلها من صِلَة ما قبلها لقوله: {أذكركم} ألا ترى أنه
قد جعل لقوله: {اذكرونى} جوابا مجزوما، (فكان فى ذلك دليل) على أن الكاف التى فى
(كما) لِمَا قبلها؛ لأنك تقول فى الكلام : كما أحسنتُ فأَحسِن. ولا تحتاج إلى أن
تشترط لـ (أحسن)؛ لأن الكاف شرط، معناه افعل كما فعلت. وهو فى العربية أنفذ من
الوجه الأوّل مما جاء به التفسير؛ وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان؛ مثل قولك:
إذا أتاك فلان فأتِه تُرْضِهِ. فقد صارت (فأتِه) و (ترضه) جوابين.
{
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
وقوله:
{وَاشْكُرُواْ لِي...}
العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت
لك. ولا يقولون: نصحتك، وربما قِيلتا؛ قال بعض الشعراء:
هُمُ جَمعوا بُؤْسَى
ونُعْمَى عَليكُمُ * فهلاّ شكرتَ القومَ إذ لم تقاتِلِ
وقال النابغة:
نصحتُ
بنِى عوفٍ فلم يَتَقبّلوا * رسولى ولم تَنجحْ لديهِم وسائلِى
{ وَلاَ
تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن
لاَّ تَشْعُرُونَ }
وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتٌ...}
رَفْع بإضمار
مَكْنِىّ مِن أسمائهم؛ كقولك: لا تقولوا: هم أموات بل هم أحياء. ولا يجوز فى
الأموات النصب؛ لأن القول لا يقع على الأسماء إذا أُضمرت وُصُوفها أو أظهِرت؛ كما
لا يجوز قلت عبدَالله قائما، فكذلك لا يجوز نصب الأموات؛ لأنك مضمِر لأسمائهم، إنما
يجوز النصب فيما قَبله القول إذا كان الاسم فى معنى قولٍ؛ من ذلك: قلت خيرا، وقلت
شرّا. فترى الخير والشرّ منصوبين؛ لأنهما قول، فكأنك قلت: قلت كلاما حسنا أو قبيحا.
وتقول: قلت لك خيرا، وقلت لك خير، فيجوز، إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت: قلت
لك كلاما، فإذا رفعته فليس بالقول، إنما هو بمنزلة قولك: قلت لك
مال.
فابن على ذا ما ورد عليك؛ من المرفوع
قوله: {سيقولُون ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} و"خمسةٌ" و"سبعةٌ"، لا يكون
نصبا؛ لأنه إخبار عنهم فيه أسماء مضمرة؛ كقولك: هم ثلاثة، وهم خمسة. وأمّا قوله -
تبارك وتعالى -: {ويَقُولُونَ طَاعةٌ} فإنه رَفْع على غير هذا المذهب. وذلك أن
العرب كانوا يقال لهم: لا بدّ لكم من الغَزْو فى الشتاء والصيف، فيقولون: سمع
وطاعة؛ معناه: مِنّا السمع والطاعة، فجرى الكلام على الرفع. ولو نصب على: نسمع سمعا
ونطيع طاعة كان صوابا.
وكذلك قوله تبارك وتعالى فى سورة محمدٍ صلّى الله عليه
وسلّم: {فَأَوْلَى لَهُم طَاعةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوف}. عيَّرهم وتهدّدهم بقوله: "فأولى
لهم"، ثم ذكر ما يقولون فقال: يقولون إذا أُمِروا "طاعة". "فإذا عزم الأمر" نَكلُوا
وكذبوا فلم يفعلوا. فقال الله تبارك وتعالى {فلَوْ صَدَقُوا الله لكانَ خَيْراً
لهم}، وربما قال بعضهم: إنما رُفِعت الطاعة بقوله: لهم طاعة، وليس ذلك بشىء. والله
أعلم. ويقال أيضا: "وذكِر فيها القِتال" و "طاعة" فأضمر الواو، وليس ذلك عندنا مِن
مذاهب العرب، فإنْ يك موافقا للتفسير فهو صواب.
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ
مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }
وقوله:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ
الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ...}
ولم يقل (بأشياء) لاختلافها. وذلك
أن مِن تدلّ على أن لكل صِنفٍ منها شيئا مضمرا: بشىء من الخوف وشىء من كذا، ولو كان
بأشياء لكان صوابا.
{ الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ
إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ }
وقوله: {قَالُواْ إِنَّا
للَّهِ...}
لم تكسِرِ العرب (إنا) إلا فى هذا الموضع
مع اللام فى التوجّع خاصَّة. فإذا لم يقولوا (لِلّه) فتحوا فقالوا: إنا لِزيد
محِبُّون، وإِنا لِربِّنا حامدون عابدون. وإنما كسرت فى {إِنَّا للَّهِ} لأنها
استعملت فصارت كالحرف الواحد، فأشير إلى النون بالكسرِ لِكسرة اللام التى فى
"لِلّه"؛ كما قالوا: هالِك وكافِر، كسرت الكاف من كافِر لكسرة الألف؛ لأنه حرف
واحد، فصارت "إنا لِلّهِ" كالحرف الواحد لكثرة استعمالهم إياها، كما قالوا: الحمدِ
لِلّهِ.
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ
حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا
وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }